بسبب شريف مختار استطاعت قلوب آلاف البسطاء من المرضى المصريين عبور لحظة الأزمة الحرجة بجهاز صغير يوضع خلف القلب المأزوم، مهمته إعادة النبض الى القلب ب «خبطة» تنبهه بأنه مازال فى العمر بقية.. بعد نزوله من منصة التكريم فى الحفل المتواضع بنقابة الأطباء الخميس الماضى أمسكت بيده الدافئة التى شاهدتها تجيد عزف البيانو فى فيلم عن رحلته كما تجيد العزف بالمشرط فى لحن جديد لحياة مرضى كادوا ينتقلون الى العالم الآخر، فعاشوا بعد أن ظن أهلوهم أنهم تجاوزوا خط النهاية، وجدت أصابعه مثل أصابعى وأصابعك وأصابع كل مصرى عادية.. فسألته ماعلاقة إجادتك عزف الموسيقى بتأسيس وحدة الحالات الحرجة بقصر العينى، فابتسم بتواضعه العميق وأوجز: كلاهما يبحث عن حق الإنسان فى الاكتمال! دوختنى العبارة فأبان: الكثير من الناس كان يأتى الى وحدة الحالات الحرجة بعد ان فقد القدرة على الشكوى وتوقف النبض، وبعضهم ينقله الأهل لإبراء الذمة والحصول على شهادة الوفاة، من هنا كانت مهمتى هى البحث عما إذا كان له فى العمر بقية، فأكتشف كل يوم دليلا جديد على أن «آية الأذن التيسير».. وأن هذا ليس مجرد شعار صوفى، لكن من كتب الله له شربة ماء يسرها إليه! انتهى حديث من جملتين فى أقل من نصف دقيقة، وانتقل بطلنا المتواضع إلى الاحتفاء بالعشرات من محبيه، وكأنه هو الذى يكرمنا بتواضعه الجم وابتسامته الراضية التى لا تعرف اليأس، وتركنى أفتش فى كلماته عن فلسفة عالم صوفى جليل ممن قال فيهم الذكر الحكيم «إنما يخشى الله من عباده العلماء» .. وليس مجرد طبيب دارت حياته من أولها حول مبدأ: حق الإنسان فى الاكتمال.. توفى والده المهندس الشاب، ترك الطفل شريف فى عمر ثلاث سنوات ولم يترك له إلا أما شابة نذرت نفسها لتربية الولدين كما ترك كتبا فنية وهندسية ولوحات ورسوما لطرز شتى من طرز المعمار المصرى والعالمى فى كل جنبات المنزل، كما وجد فى منزله بيانو كان من بين جهاز العروسين لم يوضع للزينة بل تعزف عليه الأم وتعلم منها الطفل الشريف لحن اكتمال الحياة! دفعه الغياب المبكر للوالد إلى إكمال الحياة بالموسيقى والنبوغ، فى المدرسة صار الأول والألفا، وبعد الثانوية وجد نفسه طالبا واحدا من مئات الأوائل فاختار التخصص الأصعب فى أمراض القلب، وبعد التخرج أعطاه أستاذه السماعة للتمييز بين أوجاع قلوب العيانين فشل فى أول اختبار دفعته ضحكات الأستاذ وإصراره على أن يتعلم هذا الولد لغة انين القلوب بالطواف على كل العنابر بسماعته، فى البدء وجد كل قلوب المرضى على اختلاف الأوجاع والعنابر تصدر لغطا واحدا ينشد اكتمال الحياة فأصر على أن يركب الصعب لفك شفرات القلوب ليبر بقسم الأطباء «باذلا رعايتى الطبية للقريب والبعيد للصالح والخاطىء وللصديق وللعدو وأن تكون حياتى فى الطب مصداقا إيمانيا فى سرى وعلانيتى! وامتحن معادلة فى بيروت تؤهله لمنحة دراسية بجامعة أمريكية وسافر لجامعة جنوبفلوريدا لإكمال دراسته للقلب فسمع هناك لأول مرة عن العناية الحرجة، «وجدت الدنيا تتغير، ووجدت أنه لا مانع من اكتمال حلمى بدراسة القلب بالجمع بين دراستى لأمراض القلب وبين التخصص فى طب الحالات الحرجة»! لكنه عاد إلى مصر بعد الهزيمة فى 67 رغم إغراءات البقاء فى امريكا، وكان ممن ينحتون فى الصخر لانقاذ البلد من الحالة الحرجة، بدء محمد غنيم فى مجال الكلى فى المنصورة، وهو نفسه الوقت الذى بدأ فيه محمد أبو الغار فى دراسة طب الأجنة، وما حدث فى الطب حدث فى الاقتصاد وفى الحرب وكأن الهزيمة أحدثت صدمة فى القلب والضمير المصرى فهب الشرفاء بقوة غريبة تعيد ترتيب أوراق مصر فى كل مجال حتى تحقق النصر فى 73، حتى عندما بدأ فى تشكيل فريق عمل وحدة الحالات الحرجة بالقصر العينى سأل شريف مختار طبيبة شابة عالية عبد الرحمن لماذا ترغبين العمل فى هذا المجال الصعب؟ فأجابته: عندما خطف الموت جمال عبد الناصر وكنت فى الإعدادية شعرت بأنه وغيره من المخلصين ضحية العجز عن الإنقاذ فى اللحظة الأخيرة، أقنعه منطق البنت لقبولها فى الوحدة التى كانت لا تقبل الرجال! قال لتلاميذه الذين صاروا كلية الاطباء الرعاية الحرجة: إن العيان لا ينسى أبدا اللحظة التى دخل فيها العناية الحرجة، علمهم ان الابتسامة فى وجه الإنسان المريض بعد رفع الملاءة عنه وتدفئة الأيدى قبل لمس جسد الغائب عن الوعى ربما تكون أهم من تركيب الجهاز ودعامة أولى لإعادته للحياة، فظلت المعاملة الانسانية دستورا أساسيا تتوارثه الاجيال فى وحدة العناية الحرجة التى أطلق عليها وحدة الغلابة واليائسين، لأن مؤسسها الدكتور شريف مختار آمن بأنك لا تستطيع أن تعلم الناس معنى الكرامة والعدالة وحضن الوطن إلا إذا علمت الأطباء فن زرع الأمل فى الوجوه، فالشجاعة ليست فى القضاء على اليأس ولكن فى القدرة على الابتسام للحياة رغم الياس! وكل عام وصناع شعار «انقذ حياة».. بخير. لمزيد من مقالات أنور عبد اللطيف