ما أحوجنا إلى علماء دين مثله يجمعون بين علومهم الشرعية بالإضافة للعلوم الدنيوية ويصنعون رابطا يجعل من علوم الدين دافعا للريادة فى علوم الدنيا، فينتج العقل الكامل الذى فطن إلى مقاصد وأسرار الوحى الشريف وعمل على إعمار الدنيا وصيانتها من كل انحراف وتخريف فترتفع دعوى تعارض العلم مع الإيمان وينتج عن ذلك تثبت الأركان ورفعة البنيان. إنه العلامة المتبحر شيخ الجامع الأزهر أحمد بن عبد المنعم بن يوسف بن صيام الدَّمَنْهُوريُّ، الأزهري، المَذاهبى ولد سنة «1001ه - 1189م» ببلدة دمنهور - عاصمة محافظة البحيرة الآن. ويوضح الشيخ أحمد ربيع الأزهرى من علماء الأزهر والأوقاف أن أهل الشيخ «الدمنهوري» اهتموا به لما وجدوا فيه من النبوغ المبكر وسرعة الحفظ، فقد حفظ القرآن قبل العاشرة، وكان الصبى يتيماً ولا كفيل له، وهذا لا يمكنه من العيش بعيداً عن بلده إلا فى حالة واحدة وهى الالتحاق بالأزهر، لأنه هو وحده الذى يكفل لمن ينتسب إليه بالدراسة وطلب العلم توفير شتى مطالب الحياة التى يتشوق إليها الدمنهورى وأمثاله ..» ومنذ أن وطأت قدماه الأزهر انكب على البحث والإطلاع، وقلل من الطعام والكلام والمنام فجلس تحت أقدام المشايخ يحصل علومهم ويتفنن من مخزون معارفهم فأتقن علوم الوسائل والمقاصد والمعقول والمنقول ولقب بالمذهبى لتمكنه من المذاهب الفقهية الأربعة أصولا وقواعد وإفتاء، يقول الجبرتي: (كانت له حافظة ومعرفة فى فنون غريبة وتآليف، وأفتى على المذاهب الأربعة)، ولم يكتف بدراسة علوم الفقه والتفسير والحديث واللغة، فقد شغف بدراسة الطب والفلك والهندسة، رغم نفور الكثيرين من هذه العلوم، وجلس إلى (الشيخ على الزعتري) وكان عالماً بالحساب والهندسة، ودرس آثار (ابن الهيثم) فى الرياضيات والبصريات، وآثار(ابن سينا) فى الطب والفلسفة.. ولم يترك كتاباً قديماً إلا استوعبه، وترك مصنفات فى كل فن - فى عصر اشتهر بالتخلف. ويعد مؤرخو العلوم الدمنهورى من أوائل علماء الهيدرولوجية، فمن أهم مؤلفاته: «رسالة عن الحياة فى علم استنباط المياه» وهى رسالة تبحث فى علم استخراج المياه الجوفية، وأماكن تواجدها وطرق استخراجها حسب طبيعة الأرض وتشكل طبقاتها كما إنها تتضمن شروحًا لمفهوم الدورة الهيدرولوجية للمياه، وتضمنت الرسالة جداول لمهاب الرياح والكرة الأرضية، وله كتاب فى التشريح بعنوان: «القول الصريح فى علم التشريح»، و فى علم الهندسة:«عقد الفرائد فيما للمثلث من الفوائد»، وفى علم الأرتماطيقى «إحياء الفؤاد بمعرفة خواص الأعداد»، وفى علم الكيمياء «الدرة اليتيمة فى الصنعة الكريمة». وله مؤلفات فى علوم التوحيد والكلام والقراءات والتجويد والتفسير والحديث والفقه والسلوك والتصوف والمناقب والمنطق والبلاغة والوضع والسياسة والأخلاق. قال الإمام الحافظ السيد محمد مرتضى الزَّبِيدى فى شرح ألفية السند له: و(كان عالى الإسناد، رفيع العماد، ألحق الأحفاد بالأجداد، ونزل الناس بموته درجة؛ إذ هو آخر من كان بينه وبين الحافظ البابِلِى واحد) ، كما شهد له بالعلم والفضل أكابر الشيوخ والعلماء فى الأزهرِ الشريف. تولى مشيخة الأزهر سنة 1182ه/ 1767م وظل بها حتى توفى سنة 1190ه/ 1776م. وكان الشيخ الدمنهورى عالما جليلا لا يخشى فى الحق لومة لائم .. وقد تبوأ – لذلك – منزلة رفيعة، فهابه الأمراء والولاة، وكان للعامة المرجع والمعين والداعم والنصير.