هو موسم المتقين، ومتجر الصالحين، وميدان المتسابقين، ومغتسل التائبين، هو «مدرسة الثلاثين يوما».. معسكر إيماني لتجنيد الطاقات، وتعبئة الإرادات وتقوية العزائم، وشحذ الهمم، شهر التعاطف والتراحم والتواد. إنه شهر الصيام.. ربيع الحياة. بعد ساعات يطرق شهر رمضان الأبواب..يقبل علينا بخيره وبركته.. يزورنا «شهر المسابقة والمنافسة للخيرات».. فماذا نحن فاعلون..وكيف نحتفي ونستقبل هذا الزائر الكريم؟ يقول الدكتور احمد كريمة، أستاذ الشريعة الإسلامية جامعة الأزهر: في شهر رمضان تتجدد الحياة كلها، فالعقول تتجدد بالعلم والمعرفة، والقلوب تتجدد بالإيمان والتقوي، والمجتمع يتجدد بالتواصل والترابط، والعزائم تتجدد باستباق الخيرات، إنه رمضان..شهر تحتفل السماء بمقدمه، فتفتح فيه أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران..فشهر رمضان مغتسل روحي يغتسل فيه المسلم من أدران الخطايا وعظائم الذنوب..من صامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ولم لا؟ وهو شهر فيه خير الليالي، ليلة القدر، وفيه تم إنزال القرآن، وفيه كانت البعثة النبوية، ويعظم بالقربات البدنية الصيام والاعتكاف وصلاة التراويح والعمرة وصدقة الفطر. وأضاف كريمة أنه يجب علي المسلمين في شتي بقاع الدنيا أن يستعدوا لرمضان بالتطهير الوجداني بالتوبة والإنابة وإخلاص النية لله عز وجل ثم بفعل الخيرات من إغاثة ذوي الحاجات والصدقات العينية والنقدية وصله الأرحام. والتصالح مع الله ومع العباد. ويجب عليهم أيضا الاصطفاف الوطني حتي يكونوا لحمة واحدة وبنيانا مرصوصا، فإذا كنا نستقبل الصيام في ميقات محدد وننهي الصيام مع أذان المغرب فهذا دليل علي أن الصيام عبادة جماعية ويد الله مع الجماعة. وفي سياق متصل، يري الدكتور مختار مرزوق عبد الرحيم العميد السابق لكلية أصول الدين بأسيوط أن علي كل مسلم الاستعداد لاستقبال شهر رمضان المبارك قبل مجيئه، وذلك بالفرح والسرور والشكر لله عز وجل أن أطال في عمره حتي بلغ هذا الشهر الفضيل، وقد كان من كلام بعض السلف حين يدخل عليهم شهر رجب كانوا يقولون الكلمة المشهورة عند اهل العلم «اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان»، فمن بلغ رمضان فتلك نعمة عظيمة يجب أن نشكر الله عليه. وعلينا أن نحرص علي أداء واجبات شهر رمضان من صيام وقيام وذكر وتسبيح وما إلي ذلك وأن نضع نصب أعيننا ما صح عن النبي صلي الله عليه وسلم من قوله: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» و«من قام ليله القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه».. ليكن هذا هدفنا ولنقدم في سبيله ما نستطيع..إنه شهر الجائزة وشهر التسابق في الخيرات.. مراجعة النفس ورد الحقوق وأكد د.مختار مرزوق أن علي كل مسلم يريد أن يستقبل الشهر استقبالا صحيحا، أن يوطن نفسه لمراجعة نفسه ومحاسبتها علي ما مضي من رمضان الماضي الي رمضان في هذا العام وأن يجدد التوبة بشروطها المعروفة من ترك للمعاصي والندم علي فعلها والعزم علي ألا يعود إليها. وهذا فيما يتعلق بالذنوب التي بينه وبين الله..أما المعاصي والذنوب التي بينه وبين الناس فلابد فيها بالإضافة إلي ذلك من رد الحقوق الي أصحابها وأن يطلب السماح منهم بطيب نفس وإلا فإن توبته تكون غير صحيحة، ومع الأسف الشديد هذا الأمر رغم أهميته وخطورته يخالفه كثير من الناس، لذا حثنا النبي صلي الله عليه وسلم علي سرعة أداء الحقوق، فقال: بمن كانت له مظلمةٌ لأحدٍ من عرضِه أو شيءٍ فليتحلَّلْه منه اليومَ، قبل أن لا يكونَ دينارٌ ولا درهمٌ، إن كان له عملٌ صالحٌ أخذ منه بقدرِ مظلمتِه، وإن لم تكنْ له حسناتٌ أخذ من سيئاتِ صاحبِه فحمل عليها. ويقول الدكتور محمد البيومي عميد كلية اصول الدين بالزقازيق: إذا ما تفكرنا في رمضان هذا العام فإننا نجد ان الشهر الفضيل يهل علينا في ايام نستقبل فيها الحر ونودع فيها البرد وهذه سنة كونية تحدث كل ثلاثين عاما، وهنا يجب ان نأخذ العبرة للذين بلغوا من العمر الخمسين أو الاربعين هل سيدركون رمضان مرة اخري في ايام الحر، خاصة أن صيام الإنسان في هذا الحر الشديد يكون حصنا وأمنا له من حر نار جهنم.. أضف إلي ذلك أن الإنسان بصيامه يجب أن يكون عابدا لربه آناء الليل وأطراف النهار.. ولعل البعض يستصعب دوام العبادة واتصالها لكنه عند استقباله للشهر الكريم يجب أن يدرب نفسه علي أن يكون عابدا مطلقا لا عابدا مقيدا، وشتان بين العابدين، فالعابد المطلق لا يستقبل شهر رمضان بالتراخي والكسل وإنما يري كل لحظة من لحظات يومه ومن لحظات هذا الشهر الفضيل لها نوعية خاصة من العبادة، لأنه يؤمن أن بنية الإنسان تتحول العادات إلي عبادات.. ويوقن الإنسان كذلك عند استعداده للشهر الكريم انه شهر يحدث تغييرات نوعية في النفس الإنسانية فتنقلها من مصافي الإنسانية الهابطة الي اعلي مراتب النورانية الملائكية ولا غرابة في ذلك فالإنسان في نهار رمضان لا يأكل ولا يشرب ولا يتناكح وهذه هي الحال مع الملائكة، بل انه بلغ في الرقي درجة صار فيها الإنسان الصائم أولا كالملائكة، ثانيا هذه الصفات الملائكية إنما هي أقدار خلقت بها الملائكة لكن الإنسان في صيامه تنازعه نفسه وشهوته بيد انه اثر مراد ربه علي مراد نفسه. وبهذا، أيقن أن الشهر الفضيل إنما هو شهر له فلسفته من خلاله يريد التزكية للإنسان هذه التزكية التي ينتقل الإنسان بها من الموات الي نور الحياة قال تعالي «أو من كان ميتا فأحييناه». ويؤكد الدكتور محمد قاسم المنسي، أستاذ الشريعة بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة أن الصوم عبادة تعمل علي تزكية النفس وإيقاظ الضمير، وتقوية الإرادة وتغليب حلم العقل علي حكم الشهوة والغريزة، وتنمية الشعور بمراقبة الله تعالي وكل هذه الأمور تعد من سمات الشخصية الإنسانية السوية القادرة علي البناء والتعمير وتأسيس الحياة الطيبة. وليعلم كل مسلم أن الصوم الحقيقي هو الامتناع عن كل ما يغضب الله تعالي، ليس الطعام والشراب فقط. لذا فقد روي عن جابر بن عبد الله أنه قال: إذا صمت، فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمأثم ودع أذي الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك. وقال أبو ذر رضي الله عنه:إذا صمت فتحفظ ما استطعت. وعن الآداب التي ينبغي الالتزام بها في أثناء هذا الشهر الكريم، يقول الدكتور محمد قاسم المنسي: علي الصائم أن يعقد النية والعزم علي صيام الشهر الكريم، والدعاء لله تعالي أن يتقبل صيامه وقيامه، وأن يحرص علي الامتناع عن كل قول أو فعل يتعارض مع حقيقة الصيام، فقد جاء في الحديث عن رسول الله: (الصوم جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفثْ ولا يفسقْ، وإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم). بالإضافة إلي الامتناعُ عن الكذب والتزوير في القول أو العمل، امتثالا لقوله صلي الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه). فشهرُ رمضان يعلمنا أن نصدق في اقوالنا، وأن نتقن في أعمالنا، وليس مجرد الامتناع عن الطعام والشراب، لذا ورد في الحديث (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوعُ والعطشُ، ورب قائم ليس له من قيامه إلا التعبُ والسهرُ). وعلي الصائم، الذي امتنع عن الحلال مرضاة لله عز وجل، أن يمتنع عن الحرام بكل صوره، ويتحري الكسب الحلال الطيب والبعدُ عن الحرام والخبث، إذ لا يقبل الله تعالي أن يصوم الإنسانُ عن الطعام والشراب ثم يُفطر علي طعام حرام أو دخلته شبهة التحريم. وليحرص الصائم أيضا علي هدي النبي صلي الله عليه وسلم في الطعام والشراب فلا يملأ معدته عند الإفطار، فذلك الامتلاء يشغله عن ذكر الله وعن صلاة التراويح، وكما قال بعض العارفين: اذا امتلأت المعدة نامت الفكرة. ومن الآداب التي ينبغي علي الصائم أن يلتزم بها كذلك أن يشعر بأنه يراقب الله في كل ما يصدر عنه من قول أو يقوم به من عمل، لأن الصوم هو العبادة التي لا يطلع عليها آخر غير الله تعالي: قال الله تعالي في حديثه القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به».