أخاف ألا تأتى كلماتى على قدر امتنانى، لهذا الفنان الموسيقار الذى جعل حياتى ممكنة، أبدأها بصوته يغنى: «أيامى الحلوة انساها وريح قلبك ودى آخر غنوة راح أقولها فى دنية حبك»، فأشعر بالانتصار على حبيب، غير موجود. وفى المساء، أنام على صوته الذى يسافر ليحضر لى وسادة الليل الحنون، يمسك يدى شاديا: «تصبح على خير يا حبيبى انت من الدنيا نصيبى».. فأستغنى عن حبة المنوم، والقرص المهدئ، والغطاء الدافئ. أخاف.. نعم.. فأنا أكتب اليوم فى ذكرى ميلاده، تحت تأثير اعصار هائل من «الضجر»، يقتلع بيتى، ويطيح بطاقتى، ويشل أصابعى التى أمليها السطور. أخاف أن يهزمنى «الضجر»، فأكتب أداء للواجب الذى لم يطلبه أحد، غير قلبى، أو سدادا فقط للدين الكبير الذى يلفه «فريد» حول عنقى. كم هو مؤلم، أن أستدين من فنان، لن أوفيه حقه حتى آخر العمر. كم هو جميل، أن أكون مدينة لرجل، مثل «فريد»، هو «ملك الكرم»، مثلما هو «ملك العود». ومع ذلك، أقدم على المخاطرة، وأستعد للمغامرة. فالعلاقة بين «الضجر» و « الابداع»، علاقة عضوية عميقة، تصب فى النهاية، لمصلحة الكتابة. فالكتابة أو الفن، أو الابداع، ليست وليدة الرضا، والتصالح، والقناعة، والارتباط، والانتماء. انما تُولد من «رحم» الضجر من كل الأشياء. ليس لى الحق اذن، فى الخوف. فأنا فى قمة «الضجر». وأكتب من وحى فنان، كان أستاذا لا يُضاهى، فى علم «الضجر»، تفصح به ألحانه الحائرة، ونغماته الباحثة عن حضن امرأة، وحضن وطن.. «فريد»، مثل كل فنان نادر، واستثنائى، ومتفرد، كان لا يفارقه الشعور ب «الضجر»، كموقف فلسفى من الحياة، وبحث مستمر عن وجود الذات، فى كون لا يبالى بالانسان، مهما عظم قدره، وفنه، وابداعه. «الضجر»، من تكرار المواسم والعواطف، وتشابه البشر، والحاح مطالب الجسد، واستحالة تحقق اشتياقات الروح. «ضجر»، يطول حتى الايجابيات، والانجازات، والشهرة، والمجد، وتقدير الناس، وعظمة النجاح فى العمل، واستمرار السعادة فى الحب، واخلاص الأصدقاء، وتبديد الأوهام، والمخاوف، والافلات من القيود، واتيان الرياح بما تشتهى السفن.. ويعبر «فريد» عن قمة هذا «الضجر» النبيل، حينما يعزف على العود. ارتعاشة واحدة على أحد أوتار العود، أستطيع أن أجزم، أنها أصابع «فريد».. هذا غير «الملل»، الذى يشعر به الانسان العادى، لأنه فارغ من الداخل، ليس عنده هدف يمتص وقته، وطاقته، عديم الموهبة من أى نوع، دائم الهروب من ذاته، يلهث وراء التسلية حتى لا يواجه حقائق الحياة الكبرى، وأولها حقيقة نفسه، وموضعها فى الكون. ترك والد «فريد» السلطان فهد الأطرش، بلده سوريا، هو وزوجته الأميرة علياء المنذر، وأولاده، منهم «فريد»، هروبا من اضطهاد سلطات الاحتلال الفرنسى. حيث كان والد «فريد» منخرطا فى الحركة الوطنية ضد احتلال فرنسا، مشعلا المزيد من التمرد، والمقاومة. ركب «السفينة» فى البحر، مع أسرته، قاصدا موطنا آمنا. بعد فترة من التنقل، رحل الأب، واستقرت الأسرة فى مصر. وبدأت حياتها من الصفر، كأى أسرة بسيطة، تكدح من أجل لقمة العيش، وليس كأسرة نبيلة من سلالة عريقة. وهكذا استقر «فريد» فى مصر. وهكذا تعرفنا عليه، منذ بداية خطواته، وحتى أصبح نجما، استثنائيا، له جاذبيته الخاصة، الجامعة بين سحر «الشام»، و «عراقة» مصر. ويتمتع بصوت يمزج بين شموخ جبال الدروز، فى سوريا، وحنان النيل فى مصر.. بالطبع لست أنوى سرد المعلومات، والأحداث، التى مرت بحياة «فريد». فالانترنت، يتكفل بذلك، وبشكل أفضل مِنى، وهو متاح للجميع، فى كل مكان. لكننى هنا، أحاول أن أكتب ما يصنعه صوت «فريد»، فى مشاعرى. وما تعزفه ألحانه، وموسيقاه، على أوتار نفسى. وهذه أشياء لا توفرها «الانترنت»، بكل قدراتها الخارقة، وامكاناتها التى فاقت الخيال.. أصنف نفسى «عاشقة» للموسيقى والغِناء. وهذه اشكالية كبرى، لم أستطع أن أتفاداها، أو أن يحققها. فأنا كامرأة، لا تنتبه روحى، ولا يمس قلبى، الا رجل، على علاقة وثيقة، بالمقامات الموسيقية، وأصول الغِناء. ويستطيع بمهارته الخاصة، صعود السلم الموسيقى دون جهد أو عناء.. أحس الموسيقى احدى الشفرات الأساسية، لحل غربة الانسان داخل نفسه، وداخل الكون. والغِناء، ساحر، نفتح له الباب، والأذن فيخفف الوجع، ويرطب الألم، يشفى الداء، يغسل الروح، وفى أوقات النزف يمنحنا العزاء.. وكم هى ثرية موسيقانا العربية، بأصالتها، وتنوعها، وابتكاراتها، وتجديداتها. حقيقة لابد أن نعيها، ونقدرها، ونزهو بها، كاحد مقومات وجودنا الثقافى، والحضارى. لكن مع «فريد»، الأمر أكبر، وأهم، وأعظم. مثلا، «عبدالوهاب»، صوت فخم، مهيب، مرعب من شدة تمكنه. وألحانه خيال يسبح فى ملكوت خاص به. موسيقاه تناجى الحنين، والشجن، والألم المنحوت فى نفوسنا. أستمع اليه، صامتة، شاردة، محلقة، متسائلة، ومستمتعة. لكن «عبدالوهاب»، لا يبكينى أبدا. فعلا شىء غريب، يحيرنى. الصمت، والشرود، والتحليق، والتساؤل، والاستمتاع، لا تُغنى عن «البكاء»، الذى أعتبره «أصل» الغِناء.. البكاء الذى أقصده، ليس حزنا، وليس ندما، وليس قتامة المأساة. بالتأكيد هو يحمل فى داخله هذه المعانى. لكنه أكبر، وأعظم. احساس غريب، يشبه احساس العثور على ما نبحث عنه، وفى اللحظة نفسها نفقده. الاحساس أننا كل شىء، ولا شىء فى اللحظة نفسها. وأننا كل الاكتمال، وأيضا ذروة النقص. وأنه لامفر للشمعة من الاحتراق، لكى تنير.. وأن السُكر لا نحس بوجوده أو مذاقه، الا وهو يذوب، ويختفى.. بكل سهولة، يفعل «فريد»، هذا الأمر الصعب. بكل بساطة، يذيب «فريد» هذا الاحساس المعقد. وهبته الحياة، صوتا يعرف طريقه مباشرة، الى الغدد الدمعية الكامنة فى القلب. وأعطته القدرة الممتنعة على صنع النغمات التى لا تحتاج الى وسطاء، لكى تنزف الروح، وتتألق الدموع. ولست مؤرقة بمعرفة سر «فريد» معى. ليكن أى شىء. ان ادراك الأسرار، يفسد متعتها، ويفقدها سحرها. «فريد» له ألحان، أسمعها، فتصفو نفسى المتعبة، يرتاح دمى المنهك، ويتوازن وجدانى المختل، ويروق مزاجى. أنتفض بالبكاء المفعم بفرحة غامضة، وبهجة هادئة.. هنا أقصد أغنيات، وألحانا، بدون ترتيبها الزمنى مثل: حكاية غرامى، لحن الخلود أو بنادى عليك، أول همسة، حبيب العمر، كفاية يا عين، يا حبيبى طال غيابك، نجوم الليل، لا وعينيكى، يا قلبى يا مجروح، ودعت حبك، يفيد بايه الأنين، أحبابنا يا عين، مخاصمك يا قلبى، أنا كنت فاكرك ملاك، يا زهرة فى خيالى، سألنى الليل، وحياة عينيكى، أضنيتنى بالهجر، صدقينى، أحبك انت. وهناك أغنيات لا حصر لها، موسيقاها حلوة المعشر، لذيذة المذاق، ساحرة الايقاعات، تجبرنى بكل رقة على أن أعيش حالتها الوجدانية وأصدقها، ولا أمل من تكرار سماعها، مثل: انت اللى كنت بادور عليه، قسمة مكتوبة، عشك يا بلبل، قالتلى بكره، يا فرحة المية، حبيته لكن مباقولشى، وحدانى هاعيش كده وحدانى، قدام عينيا وبعيد عليا اياك من حبى، مرة يهنينى ومرة يبكينى، أنا واللى باحبه، وياك، الحب لحن جميل، أنا وأنت والحب كفايه علينا، يا مجبل يوم وليلة، تقول لأ، ارحمنى وطمنى، مقدرش أقول أه، ادينى معاد، لو تسمعنى لآخر مرة، مش كفاية، سافر مع السلامة، ليه أنا باحبك، الحياة حلوة بس نفهمها. وهل يمكن ألا أتذكر، «الربيع»، «بساط الريح»، «عش أنت»؟.. المتابع لمسيرة «فريد»، يجد ولعه الواضح فى أغلب أفلامه، خاصة فى بداية الأربعينيات من القرن الماضى، بتأليف الأوبريتات. أشهرها ربما يكون، «الشرق والغرب»، من الهام حبه الأول، سامية جمال، التى أبدعت فى عناق موسيقى «فريد» الى حد الذوبان بقلبها، قبل أن يكون بجسدها. هى فعلا «عفريته هانم» التى عفرتت كيان «فريد»، فلم يعد أبدا كما كان، مهما تعددت علاقاته، وخفق قلبه بالحب، والهيام فى يوم ميلادى، أحتفل وحدى، مع «فريد».فأستمع فى الصباح الى أغنيته «يا مالكة القلب فى ايدك دا عيد الدنيا يوم عيدك»، وفى المساء، تأتينى تحفته: «عدت يا يوم مولدى» لحن «فريد» لعدد كبير من المطربين والمطربات. لكننى أخص بالذكر، نور الهدى، التى أهداها لحن «يا ساعة بالوقت اجرى»، التى تكاد تكون من أروع أغنيات انتظار الحبيبة لموعد الحبيب، واشتياقها، ولهفتها، لاقتراب الموعد.. ولا أنسى، لحنه العذب «روحى وروحك حبايب»، من أجمل ما غنت وردة. ولحن «يا حلاوتك يا جمالك»، لفايزة، حيث أعطى صوتها نبرة من الشقاوة الوقورة، غير المعتادة.