عَلَى طُولِ الرصيفِ المُشبعِ برذاذِ مياهِ البحرِ، كانت الشمسُ تُعلنُ مُنذُ الصباحِ الباكرِ عن قدومِ يومٍ جديدٍ ونهارٍ حارٍ لافحٍ طويلٍ، وكانتْ طوابيرُ المُسَافِرين تتمددُ بطولِ الرَصِيفِ، وتتلوى من طولِ الانتظارِ. بَدتْ السَفينةُ العملاقةُ الرابضُةُ بجوارِ الرَصِيفِ كسَفينةِ نوحِ، ومع ذلك بدا الشكُ يدخلُ قلبه، هل تستوعبُ هذه السفينة كل هؤلاء المسافرين؟ وكان ينظرُ للطوابيرِ الطويلةِ التى تتلوى بملل الانتظار مرةً، ثم ينظرُ ناحية بطن السفينة المفتوح مثل قبر جماعى كبير وهائل مرةً أخري، وسؤال يملأ حلقه بالمرارة: هل مصر كلها مُسافرة على هذه السفينة؟! يا الله.. قالها مَعَ زفرةٍ حَارةٍ تخرجُ من فمه عندما شَاهدَ بداية تحرك الطوابير الهائلة، وأبت الشمسُ الحارقةُ أن تَصُبَّ سَعيرها على أهلِ الأرضِ الذين يُقذفُ بهم فى أتون جهنم وبأوراقٍ رسميةٍ، والحربُ مُشتعلةٌ على البوابةِ الشرقيةِ، وكان وقودها الفقراء من الشباب، تمامًا مثل هذه الطوابير المُترنحة، ذات الوجوهِ الصفراءِ المُتْعَبةِ، نداهةٌ جديدةٌ أطلقتْ صَفِيرهَا، فلبتْ هذه الطوابيرُ النداءَ، وها هم يسافرون على أرجلهم المُتْعَبةِ، ومنهم من يموتون مَيتةً رخيصةً، فيعودون على ظهورهم، جُثثًا هامدة فى صناديق الموت المغلقة؛ فقط ليدفنوا فى تُرابها المقدس. يا الله... قالها عندما اقتربَ من بطن السفينة المفتوح، مثل كهف أسطورى أو قبر جماعى كبير، فحمد الله على أنه حَجَزَ على سطح السفينة، ولم يَحجزْ كابينةً أو سَريرًا داخل هذا الكهف الخُرافي، وتبينَ له فيما بعد، أن بطنَ السفينةِ مَخزنٌ للسيارات والبضائع المُسافرة للعراق أيضًا. هكذا استمر زحف الطوابير الطويلة قُلْ ساعةً أو ساعتين، تحت شمس يونيو الحارقة، حتى تخيّل أنَّ الطوابيرَ الطويلةَ وهى تصعدُ للسفينةِ وتختفى فى بطنِها كأنهم يقعون فى البحرِ من الناحيةِ الأخري؛ لكن عندما شَاهَدَ بَعْضَ المُسَافرين فوقَ سطحها، هَدَأَ وَجِيبُ صَدْرِهِ قَليلا، وما أن جَاءَ دوره واجتاز ممرات وبوابات التفتيش، وختم أوراق السفر، حتى ألقى بنفسه بجوارِ كومة من حقائب السفر، على سطح السفينة، وأخذ نفسًا عميقًا، وهو يقولُ للمرة الثالثة: يا الله.. وتمتمَ بزفرةٍ حارةٍ من حلقِهِ قائلا: كأنه طابورُ يومَ الحَشْرِ العَظِيمِ. أغمضَ عينيه من تَعبِ السفر الذى استمر طوال الليل ونصف النهار، وهو يبحثُ عن زميلى رحلته اللذين آثرا أن يجلسَا بعيدًا عنه، ويتركاه لأفكار رأسه، وهى تلعبُ به يمينًا ويسارًا دون كلل، وكانت شاشةُ سينما الذكريات تتداعى أمام عينيه مشهدًا وراء مشهدٍ. جَلَسَ وحيدًا شاردًا فى سيارة الأجرة المُسافرة من القاهرة إلى ميناء السويس، يتذكرُ كيف ختمَ أوراقَ السَفرِ سَريعًا من شئون العاملين بالكلية، واستخرجَ جواز سفر طلبة بفلوس قليلة جدًا، وحجزوا مَعًا على أول مركب مُسافرة من ميناءِ السويسِ إلى ميناءِ العقبةِ، حجزوا جميعًا على سطحِ المركبِ؛ لأن حجزَ كابينة أو سرير فى غرفة مُشتركة مع آخرين، تَرَفٌ لا يقدرون عليه خلال هذه الفترة، هكذا قال لهما عماد، وهز مجدى رأسه مُوافقًا. فى الصباح عاد إلى قريته؛ ليخبر والدته بالسفر للعراق، ويلتمسُ منها الدعاء. فى ميناء السويس قبضَ بيده على حقيبته الصغيرة التى تضمُ كل أوراق السفر وضمها لصدره، وتذكر نصيحةَ عماد بأهميةِ الحفاظِ على جوازِ السَفرِ، قائلا: جواز سفرك حطه تحت جلدك، هناك عصابات تسرقُ الجوازات، وتقوم بتغيير الصورة الشخصية. طوال الطريق من القاهرة إلى السويس، كانت شهورُ الصيف التى عمل فيها بالقاهرة، طوال مرحلة الدراسة الثانوية، والسنة الأولى بالكلية، تَمرُ أمامه كشريط سينمائي، تمامًا مثلما تَفِرُ الآن أشجار الطريق، وبسرعة كبيرة خلال رحلة السفر، كأنها تَفِرُ من أسدٍ يجرى وراءها، وسؤال واحد يُلحُ عليه: لماذا هجمت عليه كل تلك الذكريات الأليمة والمُوجعة الآن؟ هل راحَ يُذكرُ نفسه أن طريقَ سفره الجديد إلى بلادٍ بعيدةٍ لن يكون بأى حالٍ أحسن من أيامه الماضية؟ وأن سفره لن يكونَ مَفْروشًا بالوردِ، وأنه لن يجدَ وظيفةً تنتظره فى مكتب مثلا، متى وصل إلى ساحة بغداد، إنما سيجدُ الكثيرَ من الأيامِ المُتْعَبةِ والمُوجعة بانتظاره، هز رأسه وكأنه يقولُ لنفسه: لقد تعودت على ذلك منذ سنوات مضت يا صاحبى. ساعة أن قررَ وبإرادته الكاملة أن يعملَ بالإجازةِ الصيفية، وبعيدًا عن عماد ومجدى زميلى الدراسة. هون على نفسِهِ أنه تعودَ على التعبِ والشقاءِ، وعليه أن يَحمدَ اللهَ ويشكره فى كل وقت وحين. كان يسمعُ دعاءَ أمه بالتوفيق دومًا من نصيبه يترددُ فى أذنه: ربنا يُوقف فى طريقك أولاد الحلال يا ابني! أسندَ رأسَهُ للوراءِ، ثم تنهدَ وسَحَبَ نفسًا عميقًا وحارًا، وحدثَ نفسَهُ قائلا: هل تعبتَ من العملِ طوال السنوات الماضية يا صاحبي؟! كان كاسيت سيارة الأجرة طوال الطريق يُرددُ أغنية نادية مصطفي: (سلامات سلامات) التى انتشرت بسرعة البرق مع سفر الكثير من الشباب للدول العربية، وخاصة العراق والعودة بالكاسيت المستورد مع بداية عام 1982، كانت تترددُ فى الميكروباصات والتاكسيات، ومن شبابيك البيوت فى معظم قرى مصر المحروسة. هَزَّ رأسه ثانية وشريط الذكريات يَمرُ أمامه صُورةً بعد أخري، وموقفًا بعد موقف، يَمرُ أمامه كشريط سينمائي، لا يزالُ يتذكرُ أنّ أكبرَ مبلغ طلبه من والدته كان عشرين جنيهًا، ساعتها ابتسمت له والدته، ورفعت يدها اليمنى قائلة: حاضر يا حبيب أمك. ثم ابتسمت وهى تُشيرُ بإصبعيها السبابة والوسطى وتُباعدُ بينهما قائلةً: بس ممكن بس نخليهم على دفعتين! حاولَ أن يقولَ لها: إنه سيبحثُ عن سكنٍ جديدٍ مع زملاء السنة الأولى بالكلية، وأنه من الضرورى أن يدفعَ إيجار الشهر مُقدمًا. ولكن أمه قالت له بثقة لا تقلق يا ولدي: إنها سمعت من الراديو أن الدراسةَ ستتأجلُ؛ لأن الرئيسَ السادات قتلوه فى العرض العسكرى قبل ظهر اليوم. ساعتها قرر البحث عن عملٍ، حتى يُغطى بعض نفقاته الدراسية. عندما اقتربت سيارة الأجرة من ميناء السويس، كانت نادية مصطفى تُحذره من السفر فى الكاسيت قائلةً له: لا تسافر، وأن الغربة مع المال لن تأتى براحة البال، ومع ذلك هز رأسه وهو يُرددُ معها: سلامات، سلامات، سلامات، يا حبيبنا يا بلديات شوف سافروا معاك كم واحد....... نزل من سيارة الأجرة يَجرُ ساقيه قبل حقيبة السفر، وجدَ الميناءَ يمتلئ بالمسافرين، خرجوا يبحثون عن الرزق بعد أنْ ضاقتْ عليهم سُبل العيش الكريم فى مصر المحروسة، خرجوا جميعًا كأنه يوم الخروج الكبير، تفحصَ الوجوه المُسافرة مُنزعجًا، وراح يسألُ نفسه بمرارةٍ، هل ضاقت مصر بأولادها؟!! أم تزوجت رجلًا آخر غير أبيهم، فطردَ أولاد زوجته الأولى للخارج؛ ليواجهوا الموت البارد فى بلاد الغربة والوجع، مُستغربًا ردد: يا الله... دى مصر كلها مسافرة للعمل فى محافظاتالعراق! تفحصَ المُسافرين معه، وتحدثَ مع الكثير منهم؛ لكنه وجد نفسه يرتاحُ أكثر إلى صاحبه الجديد، كان يوسفُ طالبًا بكلية التجارة، جلسَ بجانبه، فتعاهدا على الصُحبةِ الطيبةِ طوال رحلة السفر، وارتاح أكثر عندما سأله: حاجز كابينة ولا سرير فى غرفة؟! هز رأسه قائلا: يا يوسف كابينة أيه وغرفة أيه، إحنا طلبة، حاجز سطح يا صاحبي! ضحك يوسف قائلا: معاك على السطح يا ريس. وحجز سطح المركب، يعنى أنك طوال الرحلة من ميناء السويس حتى ميناء العقبة بالأردن التى تستغرقُ أكثر من 18 ساعةً عليك أن تظلَ موجودا على سطح المركب بلا مقعد أو سرير للنوم، ولا يمكنك النزول لكبائن غرف النوم للراحة، ومسموحٌ لك فقط بالنزول لاستعمال الحمامات المُشتركة، وحتى الأكل فى المطعم يحتاجُ لفلوس كثيرة؛ ولهذا عمل بنصيحة زميلى الدراسة، واشترى الكثير من مُعلبات التونة والفول المدمس والجبن الأبيض والمربى والحلاوة الطحينية، زوادة طريق رحلة السفر، تكفيه ثلاثة أيام حتى يصل ساحة بغداد فى العراق؛ لأنه سيكملُ الرحلة بالسفر البرى من العقبة حتى بغداد. راحت السفينةُ تُطلقُ صُفارتها الأولى الطويلة والعالية للتنبيه، كأنها تَخُطُ خَطًا طويلا وفاصلا بين زمانين ومكانين مُختلفين، زمن الحل وزمن الترحال، ومكان الدفء وسط الأهل والأحباب، ومكان جديد بارد مجهول مع الغرباء، ومع ذلك تَجَلّدَ وضمَّ حقيبته الصغيرة لصدره الذى بدأ يسمعُ صوت ضربات قلبه المُتلاحقة سَريعةً وعَاليةً. نظر ناحية يوسف فوجده هادئًا ينظرُ للبعيد، وأطلقتُ السفينةُ صفارتها الثانية زاعقةً عاليةً استعدادًا للتحرك، هنا وضح تمامًا صوت حشرجة الصوت، كأنها سيارة قديمة، تعبت من طول السفر والترحال، وأطلقت السفينةُ صفارتها الثالثة، فتأكد للجميعِ أن السفينةَ بدأت تتحركُ بالفعل، وتبتعدُ عن الميناء قليلا قليلا، فأيقنَ أن الرحلةَ بدأت الآن. أسند يوسف ظهره للهرم الصغير من حقائب السفر، واختار جانبًا، ضد تيار الهواء البارد، وأخبره أن الليلَ سيكون باردًا فى عرض البحر، وعرف أنه سافر الرحلة نفسها فى العام الماضي، وأنه يُسافرُ كل سنة آخر شهر يونيو، عقب أداء الامتحان مُباشرة، ويَعودُ مع نهاية شهر ديسمبر، حتى يلحق بالعام الدراسى الجديد، وميزة الدراسة بالجامعة خلال فترة الثمانينيات أنها تعتمدُ امتحانًا واحدًا آخر العام.. كان يوسفُ يَسردُ عليه أحداث سفرية العام الماضي، ويَشرحُ له أنواع العمل المُتاح أمام الطلاب. وعندما أخبره قلقًا من كثرة عدد المسافرين للعراق أجابه يوسف: فى بغداد ستجدُ كل مجموعة، تُسافرُ إلى مدينة أو محافظة مختلفة عن الآخرين، لا تقلق يا صاحبى. وعقب يوسفُ واثقًا: وربك هو الرزاق. وسأله يوسف فجأة: لكن ما قلتش أنت رايح محافظة إيه؟! أجابَ بعد تفكير عميق، كأنه يُراجعُ حساباته: عند قريب لى فى بغداد، والثانى فى سمراء، والثالث فى النجف. قال له يوسفُ بلغة الخبير المُجرب: أقصدْ قريبك الجدع الأول، الغُربة يا صاحبى تُغيّرُ الناس. هز رأسه وهو ينظرُ ناحية زميلى الدراسة اللذين ابتعدا عنه من أول يوم للرحلة، فحزم أمره، وتمتم مُؤكدًا مع نفسه، إذًا إلى مدينة سمراء أولا. حان وقت صلاة العشاء، فقال ليوسف: خليك بجوار الشنط حتى أتوضأ، وبعدين تروح تتوضأ ثم نصلى مَعًا، وصلى معهما بعض المُسافرين على سطح المركب جماعة، بعد أن سأل أكثر من واحد من العاملين على المركب، عن اتجاه القبلة، ولم يصلِ مجدى أو عماد معهما، فقد راحا يغطان فى نوم عميق. راحت السفينةُ تمخرُ عباب البحر الأحمر، وتتهادى مع الأمواج، وهى تحملُ الكثير من الآمال، والكثير من الرءوس التى استسلمت للنوم، وكانت رأسه المُتعبة تعملُ وشريط الذكريات يكر أمامه مثل شريط الفيلم السينمائي، بينما وجد يوسف بعض الدفء، فجلس بجواره، بينما راح هو يستعرضُ شريط الذكريات. كان يَشعرُ براحةٍ نفسيةٍ كبيرةٍ عندما يتكلم مع يوسف، كأنه تخلصُ من عبء الغربة الثقيل الذى يَحملُهُ فوق ظهره، وفجأة وجد نفسه يسألُ: هل هدأت رأسك المُجهدة والمتعبة الآن؟! شيئًا فشيئًا ومع هدوء الليل فى عرض البحر، ومع النسمة الباردة الخفيفة التى تُنعشُ صدره برائحة اليود، جذب يوسف الملاية على صدره، واقتربَ منه وراح يَغطُ فى نومٍ عميقٍ. وكان صوت نادية مصطفى يُحذره من السفر، وكانت كلمات أغنيتها تترددُ بقوة: سلامات سلامات سلامات يا حبيبنا يا بلديات وكان هو يتأملُ الوجوه النائمة، والمتعبة والصفراء والشاحبة، من شباب ورجال من كل المحافظات، من بحري، ومن قبلي، طلبة جامعات، عمال بناء، وفلاحين، وجوه سمراء، ووجوه صفراء، تقرأُ المرضَ فى عيونهم، ومع ذلك خرجوا جميعًا للسفر، وكأنهم لم يسمعوا بأغنية نادية مصطفى: سلامات.. سلامات.