بلغة تصالحية وبعد فترة انتظار طويلة خاطب الرئيس الفرنسى ايمانويل ماكرون مواطنيه موضحا خطته للمرحلة المقبلة للتخفيف من وطأة الأزمة الداخلية التى عصفت بالبلاد عقب الاحتجاجات الشعبية الواسعة لحركة السترات الصفراء التى اندلعت منذ ما يقرب من خمسة أشهر، وسببت له ولحكومته خسائر سياسية واقتصادية جمة، وكان ماكرون خلالها الهدف الأساسى للمحتجين الذين وصفوه آنذاك وبسبب خطته الاقتصادية بأنه رئيس الأثرياء، منددين بانعدام المساواة وانفصال النخبة السياسية عن المواطنين. وخلال المؤتمر الصحفى الذى عقد فى قصر الاليزيه و جاء بعد انتهاء الحوار الوطنى الكبير الذى استمرت نقاشاته ثلاثة أشهر وشمل جميع المقاطعات الفرنسية، وتم خلاله طرح العديد من القضايا مثل الضرائب والديمقراطية فى الداخل مع مختلف مكونات المجتمع مثل الطلبة والعمال ورؤساء البلديات، تناول ماكرون العديد من القضايا بدءا من القضايا الاقتصادية التى تعهد فيها بخفض الضرائب، مرورا بالإسلام السياسى وانتهاء بالعلاقات مع دول الجوار الأوروبي، وهو ما دفع بعض وسائل الاعلام الفرنسية لوصف المؤتمر بأنه لحظة الحقيقة التى طال انتظارها. وكان ماكرون وخلال اللقاء الذى كان من المقرر فى البداية أن يكون خطابا مسجلا يذاع على المواطنين، ولكنه تأجل بسبب حريق كاتدرائية نوتردام، ثم ما حدث من تسريب للخطاب بأكمله لوسائل الإعلام، وهو ما اضطر الإليزيه لاستبدال الخطاب بمؤتمر صحفي، قد أكد أنه وبعد ثلاثة أشهر من الاستماع للمواطنين والتحدث معهم لمس عن قرب الكثير من الحقائق وتعهد بإعادة ضبط الفلسفة التى آمن بها لتصبح أكثر واقعية، كما تحدث باستفاضة عن خططه الجديدة فيما يخص الملف الاقتصادى الذى كان شرارة البدء للاحتجاجات، حيث أكد عزمه خفض الضرائب على الدخل بنحو 5 مليارات يورو على أن يتم تمويل هذا الخفض من خلال سد الثغرات لبعض الشركات وتقليص الإنفاق الحكومي، على أن تعمل الحكومة على إبقاء عجز الموازنة فى الحدود الآمنة، ولكنه طالب فى الوقت نفسه المواطنين بمزيد من العمل وبذل الجهد لزيادة المشاركة المجتمعية فى تحمل الأعباء، موضحا أن فرنسا تعمل أقل كثيرا من المتبع فى دول الجوار وأنهم يحتاجون لطرح نقاش جدى حول ذلك. وخلال المؤتمر كذلك تعهد ماكرون باتخاذ خطوة كبيرة نحو اللامركزية، موضحا أن فرنسا يتعين عليها أن تغير الطريقة التى يتم بها تنظيم الجمهورية، كما أشار إلى ضرورة السماح للمواطنين بإطلاق استفتاءات سياسية من خلال تقديم التماسات، وذلك فى تنازل جزئى لأحد المطالب الرئيسية لمحتجى السترات الصفراء. هذا الحديث عن هموم الداخل لم يتوقف فقط عند حدود المطالب الاقتصادية ولكنه تطرق كذلك لقضية مهمة تناولها ماكرون بقدر كبير من الحسم وهى الخاصة بملف الإسلام السياسي، الذى اعتبره ماكرون يشكل تهديدا للجمهورية الفرنسية لأنه يسعى للانعزال عن المجتمع، ومطالبا حكومته فى الوقت نفسه بالعمل على منع وصول أى تمويل لهذه الحركات المتشددة من الخارج. وهو أمر أقلق البعض ممن تساءلوا عما إذا كانت تصريحاته ستغذى ظاهرة الاسلاموفوبيا أم لا؟ وإن كان المراقبون يرون أن انتقاداته كانت موجهة بالأساس للتيارات المتطرفة والإرهابية وليس للمواطنين العاديين. كما لم يغفل الإشارة كذلك للعلاقات الفرنسية الألمانية التى تعد ركيزة الاتحاد الأوروبي، قائلا إن الصداقة بين البلدين لا تعنى اتفاق بلاده مع برلين، وان هناك خلافات بين البلدين بشأن ملفات مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى والعلاقات مع الولاياتالمتحدة. وتبنى كذلك خطا أكثر تشددا فيما يتعلق بالهجرة، مؤكدا أنه يسعى لتطبيق إجراءات أشد صرامة للسيطرة على الحدود، وتحقيق مزيد من مشاركة الأعباء التى تجلبها الهجرة بين جميع دول الاتحاد، موضحا أن هذه القضية تمثل ثانى أكبر معركة يخوضها فى أوروبا بعد التغير المناخي. وهنا يشير المراقبون إلى أن امتصاص الغضب الشعبى وسحب البساط من تحت أقدام المحتجين، وإن كان الهدف الأساسى لماكرون، إلا أن هناك أهدافا أخرى فهو من وجهة نظر هؤلاء يضع نصب عينيه الانتخابات المقبلة 2022، وهو على وعى تام بأن كلا من سابقيه سواء نيكولا ساركوزى أو فرانسوا أولاند لم يمكثا فى المنصب سوى فترة رئاسية واحدة فقط، ومن ثم فإن تعامله مع تعقيدات الوضع الداخلى لا تضع على المحك فقط أجندته الطموحة لتحديث فرنسا، ولكنها تضع أيضا صورته على المسرح الدولى كرجل دولة قادر على مواجهة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، وعلى قيادة أوروبا فى ظل استعداد المستشارة الألمانية ميركل ترك موقعها وتخبط خطط البريكست البريطانية. لقد اعترف ماكرون جزئيا وكما بدا من خطابه بمسئوليته عن انهيار الثقة بين الحكومة والمواطنين، ومع ذلك كان واضحا أيضا أنه مازال متمسكا بصحة موقفه، عندما قال إنه سأل نفسه مرارا خلال الفترة الماضية هل يوقف كل ما بدأه خلال السنتين الماضيتين، وهل سلك منعطفا خاطئا؟ وأجاب أنه لا يعتقد ذلك مؤكدا عزمه المضى قدما فى إصلاحاته. وهو ما دفع بعض المراقبين للقول إن ماكرون رغم هذا المؤتمر وهذه القرارات سيحتاج لبذل مزيد من الجهد لإقناع المواطنين المتشككين، والمحتجين الرافضين والمعارضة اليمينية المتربصة التى تستعد لمنافسة حزبه فى انتخابات البرلمان الأوروبى المقبلة.