خطوات معدودات داخل درب المهابيل القريب من ميدان العتبة فى قلب القاهرة، كانت هنا آخر «بوظة فى بر مصر، لكن لم يعد لها أثر، حتى مكانها اندثر بعد أن أقيمت عدة مبان مكانها وحولها غيرت من ملامح الدرب القديم وكادت تطمسها أمام طوفان التمدد التجارى لأسواق العتبة بمتاجرها ومعارضها ومخازنها ومطاعمها واختناق حركة المرور فيها السيارات والمشاة على السواء. .................................... داخلنى شعور بالغيظ والألم عندما سألت عن البوظة رجلا يبدو عليه من أهل المنطقة أوغل فى الشيخوخة كان جالسا على مقعد كأنه معلم أساسى من معالم الدرب وهو ما تشاهد مثله فى كل حارة قاهرية ويحتفظ فى رأسه بسجل حكايات بالصوت والصورة لكل ما مضى، فأجال الرجل «لا.. البوظة من زمان اتهدت واتبنى مكانها عمارة من ييجى أربع سنين» مفيش أى بوظ تانية؟! فيه بوظة عند أول شبرا فى جزيرة بدران! لكن سألت عن بوظة جزيرة بدران ولم أعثر لها على أثر، لتكون يوظة درب المهابيل هى آخر مكان فى مصر شهد هذا النشاط المحرم. غير انه عند العودة الى درب المهابيل علمت ان هناك من يبيع البوظة فى مكان شبه سرى فى نهاية الدرب من اتجاه باب الخلق ولكن فى زجاجات وليس فى القرعة وله ايضا زبائنه ممن بقى من اشباه الحرافيش الحاليين. ولم أكن أريد أن أشرب بوظة ولكن أردت أن أرى أى أثر للبوظة التى نرى لمحات عنها فى الأفلام التى تتناول تاريخ القاهرة الشعبية فى عصور الفتونة وغيرها مثل محمود الجندى فى التوت والنبوت وفريد شوقى فى الكرنك. إذن فالقاهرة السرية كان لها مجتمعها الذى غاب عن المؤرخين وعندما استدركته الروايات والأفلام قدمت، مجرد ومضات عنه جاءت كمشاهد شرب البوظة!. »حرمها السلفيون وأحلها الصعايدة» فما هى هذه البوظة؟! هى اسم المشروب الذى أطلق على المكان، كإطلاق اسم القهوة على المقهى، وتصنع من الماء والدقيق والخميرة وكانت تعد فى جرار من الفخار وتترك للتخمير فتصبح خمرا يسكر بها الناس وهى مشهورة ومعروفة حتى الآن فى الصعيد ولكنها تصنع هناك بدون أى أثر للسكر مهما شربت منها لأنها مخففة ولا تترك فترة طويلة ولا تخزن ولا تبيت إلا لبضع ساعات، لأنها لا تستساغ بعد تخمرها ولذلك فالبوظة الصعيدية والتى تسمى أحيانا «ثوبيا» - وهى ليست السوبيا المعروفة الآن ولا تسكر- فلم يعرف الصعايدة، حتى من يعاقرون الخمر منهم، البوظة كمشروب مسكر، بل هى المشروب المثلج المباح والمتاح بين البيوت والأسواق وإن كان السلفيون عند ظهورهم قد حرموا شربها، لكن لم يلتفت الصعايدة لفتواهم، بل أصبح تحريمها مثارا للسخرية، فمازال الصعايدة يجعلونها مشروب رمضان المفضل المنافس لقمر الدين، وأنا شخصيا أعشق هذا المشروب الذى لا يتناول إلا مثلجا وحتى قبل انتشار الثلاجات، كان بائعو البوظة الصعيدية يأتون بألواح الثلج ملفوفة بالخيش من مصنع الثلج فى البندر ويضعونها فوق «المزاير الفخارية التى يعدون فيها الثوبيا» ولها أكواب زجاجية مخصصة لشربها أكثر من ضعف كوب الشاى الكبير ويملأ البائع كوزا صغيرا منها ليغرفه من الزير ويصبه فى الكوب، متعمدا أن يرتفع مسافة فوقه لتسمع خريرها وترى الفقاقيع وهى تريم فوق الكوب فتثير شهيتك للثغتها اللذيذة وكانت مشروبا رخيصا يشربه الكبار الرجال والنساء والصغار أيضا، لا يجدون حرجا من شربها ولا يرونه حراما ولا عيبا، بل تصنعه السيدات فى البيوت لاسيما فى ليالى الرمضانات الصيفية. لكنها فى القاهرة الشعبية القديمة كانت خمرا شديدة السكر والسكر يأتى من شدة التخمير وأى مشروب يتم تخميره يصلح للسكر حسب الإكثار منه؟. »هل تعلم - مثلا- أن عصير القصب لو تركته فترة ليست بالطويلة، سيتحول إلى خمر ولما لا؟!.. قالقصب نفسه المصدر الرئيس للكحول!. كذلك الينسون والبلح والشعير وغير ذلك، فلعلك أدركت أن اسم الخمر هو من التخمير وهو مرحلة من مراحل التعفن لكنه عندما لا يصيب بأعراض التسمم يصبح خمرا. وفى الصعيد لا تترك البوظة حتى تصبح خمرا كما هو الحال فى القاهرة القديمة فطعمها ولونها وقوامها ورائحتها ليست لها أدنى صلة بالخمر، حتى لثغتها الشهية على طرف اللسان ونكهتها فى جوانب الفكين عند لحم الخد الداخلى، ليست كالخمر وهى لا تسكر ولا تصيب بالوخم الخمرى المشهور، بل تعطيك خفة ونشاطا. وكانت محلات العصير تقدم البوظة من بين مشروباتها وكان هناك محلات متخصصة فيها وكأن أشهرها على سبيل المثال فى نجع حمادى «بوظة بلح» ولا يدخل مكوناتها البلح كما قد يتبادر للأذهان ولكن سميت بذلك نسبة إلى صاحبها «أحمد بلح» الذى كشف قبل وفاته عن سرها لبعض زبائنه وهم يتساءلون عن سبب طعمها المميز، فقد كان يضيف إليها «الفانيليا». «كيف الحرافيش» غير أنهم كانوا فى القاهرة أفسدوا البوظة ولم يحلوها بالسكر ولم يضيفوا إليها أى مواد معطرة لا فانيليا ولا غيرها، هم فقط انتظروا حتى يشتد تخميرها فتصير «حذرة مذرة» لا تطاق لا فى شرابها ولا رائحتها. هكذا أخبرنا الرجل القاهرى الذى يتذكر أيام البوظة، غير أنه لم يكن يرتادها لأن سمعتها كانت سيئة وكان يرتادها االفواعلية والعربجية والحمارة والشيالين والنشالين والهجامين والقرادتية وأولاد الكار من مختلف طوائف الحرافيش كافة. »ولعل مشروب المزر المنهى عنه فى الشريعة الإسلامية له صلة ما بالبوظة القاهرية». وفى وصف سمعته عن مقر البوظة الأخيرة فى درب المهابيل أنها كانت بناء بسيط وكثر فيه الجلاليب البلدية وغالبية هذه الجلاليب كانت من أهل القاهرة الذين ارتدوا الجلباب وكادوا ينقرضوا ولكن مازالت بقاياهم تجدها مابين الحين والآخر فى دواخل القلعة والدرب الأحمر والجمالية والحسينية وبولاق ومصر عتيقة وهم رغم ارتدائهم الجلابيب إلا قاهريو الجدود واعتادوا لبس لجلباب كميراث ولعل الباقى منهم الآن لا يتجاوزون أصابع يديك. المهم أن مرتادى البوظة كان غالبيتهم من هؤلاء ولكن ضاعت فرصة رؤيتهم فيها وهم يجلسون على الحصير «يقربعوا» البوظة من القرعة أو الكوز. والقرعة وعاء على شكل نصف كرة وسمى بالقرعة غالبا لأنه ربما يكون نصف قرعة من نبات القرع الذى يمكن استخدامه بعد شقه نصفين ليصير كل نصف وعاءً للشرب. وكما رأينا فى الأفلام كان الناس يشربون البوظة فى جلسات جماعية وكان كأى مجتمع من مجتمعات الخمر، يتشاجر المتعاطون غير أن لكل بوظة واحد أو أكثر من البلطجية تكون مهمتهم فض هذه المشاجرات. وكما رأينا فى فيلم التوت والنبوت كان يحدُ أن يتبارى اثنان من الشاربين أيهما يحافظ على توازنه مع شرب أكبر عدد من القرعات. «البوظة التى أنقذت البشر من الفناء» وعلى شدة تخميرها بالنسبة للبوظة الصعيدى، فالقليل من هذه البوظة لا يسكر كما علمت، خاصة لو كان من دقيق القمح أو الذرة ولكن أشدها سكرا نسبيا هو دقيق الشعير الذى تصنع منه البيرة أو الجعة وهى الخمر أو المشروب المفضل لدى المصريين القدماء وله قصة مع الإلهة «حتحور» عندما أمرها رع «كبير الآلهة فى المثيولوجيا المصرية» بإهلاك البشر وهم وقتئذ أهل مصر، ولكنه عاد وندم وخشى من أن تقضى عليهم فأسكرها بمزج الشعير بالماء فصار على شكل الفيضان فشربت منه ورأت صورتها فى الماء فضحكت وطربت وكان هذا هو أول علامات السكر، فنسيت حتحور مهمتها التى كلفها بها رع. فهل كانت الجعة المصرية هى الصورة القديمة للبيرة، هى نفسها البوظة؟!. للفقراء أيضا أمزجة وهناك طرق متعددة لإشباع مزاج الفقير تناسب دخله ولذلك اخترع الفقراء من أهل المحروسة البوظة التى لا تكاد تكلفهم شيئا لأنها تصنع من الخبز الذى يشبع بطونهم والماء الذى يروى عطشهم، فلا طير أن يجعلوا منها الخمر التى تسكر رؤوسهم!.