فى مِثل هذه الأيام من عام 2013 كان التشكيلى المصرى (وجيه وهبه) يسير على رصيف شارع 26 يوليو الذى يخترق قلب حى الزمالك، حينها جمعتنا الأقدار للمرة الأولى وجها لوجه، وكان أن تتابعت اللقاءات ومنها ما ضمنا فيه منزله المَرسَمْ، ليُتاح للعبد لله أن يتجول بين لوحاتٍ تمتْ، وأخرى (اسكتشات) من رحم الوعى تتشكل، وبمداد الألوان تتغذي، جميعها تفرض على المُتَلَقى فى حضرتها التَنَبُّه، وفى آفاقها التَدَبُّر، ومن بعدِ مغادرتها تترك أثرًا فى الروح لا تُجسدُه كلمات، وفى العقل يبعث على السير خلف الأثر أملًا فى بلوغ فكرة .. أَيُّ فكرة؟. بمرور الأيام وتتابع اللقاءات بين مسافاتٍ غير قصيرة، كان ثمة علاقة تنشأ بينى وبين الرسم التعبيرى متجاوزة حالة الألفة الحميمية مع الرسم الواقعى الذى تمتد جذوره لأصول فى شخصية المصري، وهنا تجدر الإشارة إلى أن علاقة توحد عامة تربط منبت الكلمة والصورة, اللوحة، لكنها فى حضارتنا المصرية لها خصوصية التماهى التى وَصفَها عالم المصريات الفرنسى (إيتين دريتون) حين قال (الكتابة المصرية القديمة تسجيل بصرى للمسموع، والتصوير المصرى القديم تسجيل بصرى للمنظور)، هكذا إذن يُمكن فهم أحد أسباب التأخر الحضارى الآنى حين امتهنتْ الكلمة استخدامًا، وتوارت اللوحات حبسًا فى جدران معارضها. مرتْ أعوام تسعة خلت من أى فعاليات فنية عامة للتشكيلى المصرى (وجيه وهبة)، لمْ ينقطع خلالها عن اللوذ بريشته والاعتصام بصفحات (اسكتشاته) البيضاء، كان توحش الواقع ينبش أظافر قبحه فى أرواح الناس، تتابع موجات التحولات السياسية فى مرحلة ما بعد 2011، تفرش أوجاعًا على صفحات واقعنا، وتُعمِل ريشة عبثِيَتِها فى الملامح والنفوس، ليئن الأصيل تحت وطأة الزيف والمُعاناة والركون والركود. خلال تسع سنوات من المتابعة اكتشفتُ أن (وجيه وهبه) يسير كثيرًا على قدميه، وحين يُقرِّرُ الركوب يشير إلى أقرب تاكسي، كان يختزن ما وراء الملامح والأحداث، يعصر خبرات الوجوه فى بوتقةٍ من التأمل، ليصبها (بورتريهات) تعبيرية ملتهبة التدفق إذ تنصهر فيها أوجاع الواقع مع أوجاع الأحلام الموْؤدة والمنتظرة. فى الرابع عشر من أبريل الحالي، قرر (وجيه وهبه) أن يطلق بيانه التشكيلى الذى تشكلتْ أحرفه عبر قرابة عقْدٍ من الزمن رسمًا وعمرٍ من الاختمار وعيًا، وآن للوحات أن تُغادر مواقعها فى المرسم لتواجهنا والواقع، فى قاعة (بيكاسو) بالزمالك حمل المعرض عنوان (تنويعات)، وانقسم إلى جزءين أحدهما حوى اللوحات والآخر ضم (اسكتشاتٍ)، لوجوه تعبيرية أنتجها فنٌ عنيف وعفوى وثائر. خلال عقود من التجريف باسم الدين تارة وباسم السياسة تارة، وباسم الكوميديا تارةً أخري، استحال الفن التشكيلى الذى كان أحد أعمدة البناء فى صرح حضارتنا الإنسانية الأولي، استحال حرامًا أو رفاهية أو جنونًا، وتحول الرسم لُغةُ الحضارة الأولى التى كانت على كل أدوات المصرى القديم إلى (مادة) تعليمية خالية المضمون، قابلة لتكون حصة بديلة لأيٍ من مواد مناهج التلقين، إذ يظل المواطن الخالى من كل ذائقة لجمال هو المواطن المثالى لدى إدارات القطيع. فى تنويعات وجوه (وجيه وهبه) التى استقل بها قسمٌ من معرضه، يدوى فى قسمات خطوطها المباشرة صوت التشكيلى الألمانى فرانتس مارك ( نحن اليوم نسعى إلى ما وراء قناع المظاهر الذى تتستر وراءه الأشياء فى الطبيعة إذ تبدو لنا أنها أهم من اكتشافات الانطباعيين)، إذن يفرض التشكيلى المصرى خطوطه السوداء على فضاء صفحات ملامحنا الأبيض، متجاوزًا تقليدية البناء والتركيب، ومُنتجًا شخصياتنا التى تعقدت وتشوهت وتنافرت بفعل ما يعتمل فى واقعها بعد فضل أقنعة العواطف التى تغلف الملامح أو تأسرها. قد يبدو الحديث عن معرضٍ للفن التشكيلى منفصِلًا عن سخونة واقعنا متفجر الأحداث والتداعيات، غير أن ذلك يفرض الإمسِاك بريشة الأمل سعيا لرسم بعضٍ من ألقٍ، على صفحة الفطرة التى يستهدف ذائقتها القبح بفرضِ مفرداته من أشباه كلماتٍ وأغانٍ ولوحاتٍ وألوانٍ لشتى فنون صناعة الوعي، وهو ما شاع حتى ساد بضاعةً رائجة فى كل الأسواق، بدءا من أدوات الحوار الشخصى المباشر ومرورًا بكل أنواع البيان انتهاءً بمجاراة ذلك فى خطابات أكاديمية كانت فى السابق محصِنةَ للوعى ومحصَنَةً به. فى تنويعاته واجهنا (وجيه وهبه) بوجوهنا كما يراها ولا نراها أو نهرب من رؤيتها، وجوه جردها الرسم من هوية شخصية، وعراها من كل توجه، ومسح عنها كل مساحيق التبرج، وبقيت محض خطوط تتشكل بحرية ممزوجة باغتراب وحيرة، حيث لا شيء حقيقيٌ، ولا معنى لوجودٍ بغير مواجهة واعية لصدماتٍ فنية موجَهَّة أطلقها التشكيلى المصرى (وجيه) صوب وعى من يعى ... فمَنْ يعي؟!. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى