جاءت المقالات والتحليلات التى نشرتها الصحافة المصرية والعربية عن د.أحمد كمال ابو المجد بعد رحيله عن دنيانا فى 3 أبريل الحالى كاشفة عن المكانة السامية التى شغلها هذا الرجل فى حياتنا الفكرية والسياسية. وشارك فى الكتابة عنه مفكرونا من سائر التيارات السياسية والذين اتفقوا جميعا على انه برحيله فقدت مصر رمزا وهاجا من رموزها الفكرية الذى عمل على مدى أكثر من ستين عاما من اجل النهضة والتقدم . كان أبو المجد تركيبة فريدة فى تكوينها الثقافى والسياسي، فقد جمع بين معرفة عميقة بالعلوم الشرعية وإلمام واسع فى حقول القانون والسياسة والتاريخ والادب والشعر. وفى تخصصه فى مجال القانون، درس فى القاهرة وباريس ولندن وميتشيجن، فأصبحت لدية نظرة مقارنة للقواعد القانونية وظروف نشأتها وتطورها ، ثم انه جمع بين استاذية الجامعة والعمل السياسى فى منظمة الشباب الاشتراكى التى اصبح امينا لها، والعمل التنفيذى كوزير للإعلام، والعمل الحقوقى كنائب لرئيس المجلس القومى لحقوق الانسان، واستمر عطاؤه فى عهود الرؤساء جمال عبد الناصر وانور السادات وحسنى مبارك. عرفته عن قرب، وكان نعم الانسان والمعلم والصديق. التقيت به للمرة الاولى عام 1965 فى اطار عملنا كأعضاء فى هيئة السكرتارية المؤقتة لإنشاء منظمة الشباب، وعندما سافرت لاستكمال دراستى العليا فى عام 1966كان مستشارا ثقافيا لمصر فى الولاياتالمتحدة وكندا، وبحكم منصبه فقد كان مسئولا عن الطلبة المصريين الدارسين هناك، واشهد الله انه بعد هزيمة 1967، وانفجار براكين الغضب بين الدارسين المصريين وازدياد حدة انتقادهم للنظام الحاكم، فقد نجح د.ابو المجد فى كسب احترامهم وتقديرهم لما ابداه من تفهم وقدرة على الحوار معهم بشكل عقلاني، فلم يتخذ الرجل موقفا تبريريا او اعتذاريا، وانما اقر بوجود جوانب قصور واخطاء، ولكنه حرص على نقد افكار اليأس والاحباط التى سادت لدى البعض مؤكدا ضرورة الثقة بالذات، وان المصريين قادرون على تجاوز المحنة واعادة البناء. وعندما عدت من بعثتى فى عام 1973، كان د.ابو المجد يشغل منصب أمين الشباب بالاتحاد الاشتراكى، فكلفنى على الفور بتولى مسئولية التدريب والتثقيف بالمنظمة. وعندما عين وزيرا للإعلام فى عام 1974 دعانى للعمل مستشارا له ، وانشأنا داخل الوزارة «هيئة الخبراء» التى ضمت مجموعة من شباب الباحثين من خريجى كلية الاقتصاد الذين ازدانت بهم حياتنا الفكرية والاعلامية، مثل عبدالمنعم سعيد وابراهيم كروان وعبد العاطى محمد ومحمد السعيد ادريس وامل الشاذلي، كما أنشأنا مركزا للمعلومات تولاه طه خليل الذى شغل فيما بعد منصب وكيل المخابرات العامة. وكان حصاد هذه الخبرة مفكرا من طراز متميز متعدد القدرات والمواهب، وأود ان اركز هنا على امر واحد يتصل بأوضاعنا السياسية والاجتماعية ويؤثر فيها بشكل مباشر. وهو قبول التعددية فى الافكار والاتجاهات، واعتبار ان الاختلاف فى التقدير والتقييم هو من طبائع علم الاجتماع والبشر. كان د.ابو المجد نموذجا للمفكر التوافقى الذى يسعى الى التقريب بين المختلفين ويفتش عن القواسم المشتركة بينهم والتى يمكن ان تكون اساسا للتعاون والعمل المشترك بينهم لبناء الوطن. تجلى ذلك فى المناقشات التى دارت قبل انشاء منظمة الشباب والتى شارك فيها مثقفون ينتمون الى تيارات ليبرالية واسلامية واشتراكية وماركسية وقومية والتى اتسمت احيانا بالحدة ، وقام فيها الرجل بدور مهم فى التوفيق بين الآراء وكان تقييمه لها بعد قرابة اربعين عاما انها تمت بين اطراف جميعهم مخلصون وجادون، وانهم مارسوا قدرا كبيرا من الارتفاع فوق انتماءاتهم الفكرية المختلفة، وان النقاش اسفر عن اتفاق بأن يشمل البرنامج التثقيفى للشباب ما يعبر عن ثقافة الامة والتوجهات الاساسية لنظامها القائم، وذلك كما ورد فى حديثه مع جريدة الجمهورية بتاريخ 12 يوليو 2002. كما تجلى ذلك فى ادارته لوزارة الاعلام عام 1974 وحرصه على السماح بتوفير الفرصة المناسبة لكل التيارات الفكرية للتعبير عن نفسها فى اعلام الدولة ، وكان ذلك هو احد مصادر الخلاف بينه وبين الرئيس السادات ولم يطل به العهد فى الوزارة وتم تغييره بعد عام ونصف العام ليحل محله يوسف السباعي. واشير الى واقعة غريبة فى هذا الشأن، فقد كان هناك تقليد وقتذاك بان يمنح رئيس الجمهورية الوزراء السابقين وسام الجمهورية وهو ما حدث، ولكن تم تسليم الوسام له بطريقة غير مسبوقة، ففى احد الايام طرق شخص ما باب شقة د.ابو المجد وقال لمن فتح الباب انه موفد من الرئاسة لتسليم الوسام للدكتور. وكانت هذه هى اول وربما آخر مرة يتم فيها تسليم احد اوسمة الدولة الرفيعة على باب الشقة. آمن ابو المجد بأن الامة تنهض على اساس التوافق بين مكوناتها الاجتماعية ، وانه ضرورة للاستقرار السياسى والسلم الاجتماعى واساس مصلحة المجتمع، وان سبيل بناء هذا التوافق هو الحوار وليس المواجهة، فالحوار هو لغة التقريب بين المختلفين، ورفض كل افكار الانفراد والاستئثار والاستقطاب والاستبعاد والتهميش، كما رفض اساليب الاهانة والتجريح وإلقاء التهم جزافا ووصفها بالدعوات والممارسات الشيطانية، وعندما صرح احد قادة الاخوان فى يونيو 2013 بان قتلانا فى الجنة وقتلاهم فى النار وصف ابو المجد ذلك بانها دعوة جاهلية مرفوضة، واكد دوما ان المسئولية الوطنية الجامعة لها الاولوية فوق الانتماءات الحزبية والايديولوجية. وفى وسط الازمة السياسية التى احاطت بمصر فى تلك الايام كتب مقالا بعنوان نداء الى شعب مصر أكد فيه امانة الكلمة، واحترام آداب الحوار وذلك للحفاظ على تماسك النسيج الوطنى للشعب. كما آمن بالحوار بين الاديان، وعمل على البحث عن ما يجمع بينها وذلك لأنها جميعا جاءت لبناء مكارم الاخلاق.. كان باسم الوجه.. بشوش المظهر.. حلو العبارة .. تتدفق كلماته وافكاره بشكل مرتب ومنظم دون ان تسيء او تجرح احدا . رحمه الله رحمة واسعة. لمزيد من مقالات د. على الدين هلال