خبيرة أسواق المال ل"فيتو": البورصة في فترة تصحيح وضريبة الأرباح الرأسمالية سبب تراجع المؤشرات    ما أسباب خصم الرصيد من العدادات مسبقة الدفع بالمنازل والمحال المغلقة؟ الكهرباء تجيب    محافظ الدقهلية: تطبيق المواعيد الصيفية لفتح وغلق المحال يحقق الانضباط في الشارع    وزير المالية الإسرائيلي: المبادرة المصرية تشكل خنوعا إسرائيليا خطيرا وانتصارا كارثيا لحماس    ثلاثة لاعبين في قائمة برشلونة لتدعيم خط وسط الفريق    محافظ قنا يعلن الطوارئ وغلق الطرق السريعة لحين استقرار الأحوال الجوية    هشام عباس وعلي الحجار والكابو يشاركون بحفل مصطفى قمر في الشيخ زايد (صور)    خبير: غموض موقف ضريبة الأرباح الرأسمالية يهدد بخسائر فادحة للبورصة    رئاسة COP28: نحرص على تعزيز التعاون الدولي لإنجاز عمل مناخي فعال وداعم للتنمية    الري: الإسراع في برنامج تطهير الترع استعدادا لفترة أقصى الاحتياجات    تعليم النواب: رصدنا تحصيل بعض المدارس رسوما من الطلاب لتصوير الامتحانات الشهرية    الاحتلال يمنع الفلسطينيين من صلاة الجمعة بالأقصى .. وبيان عاجل ل حماس    شركة أمبري البريطانية تعلن عن حادث قرب المخا اليمنية    مسؤول يحذر من موجة هجرة جديدة نحو أوروبا.. فيديو    تكريم الطالب كريم عبد الرازق في ختام فعاليات مهرجان الأنشطة الطلابية الأول بجامعة السويس    خليفة كلوب.. ليفربول وفينورد يضعان اللمسات الأخيرة بشأن آرني سلوت    بتفوقه على الأهلي والزمالك.. بيراميدز يتوج بطلًا لدوري الجمهورية 2009 (فيديو)    موقف مفاجئ من مبابي لحسم انتقاله إلى ريال مدريد    فانتازي يلا كورة.. الثلاثي الذهبي في أرسنال    أداء الفرسان مشرف.. برلمانية: مدينة مصر للألعاب الأولمبية فخر لكل العرب    أوقاف القليوبية : افتتاح 16 مسجدا خلال 4 أشهر    "كتيبة إعدام" قتلت "جهاد".. ضبط المتهمين بإشعال النار في طفلة انتقامًا من أسرتها بالفيوم    بيان عاجل من جامعة حلوان بشأن حالة الطالبة سارة هشام    برقم غير متوقع .. مي كساب تبرز رشاقتها بهذه الإطلالة من دبي    ماجدة الرومي تبدأ حفلها بقصر عابدين بكلمة في حب مصر.. صور    بإقبال كبير.. اختتام فعاليات القافلة الثقافية بالبحيرة    خطبة الجمعة من سيناء| د. هشام عبدالعزيز: حسن الخلق أثقل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة وهذه أهم تطبيقاته في الإسلام    فضل المشي لأداء الصلاة في المسجد.. لن تتخيل ماذا أعد الله للمؤمنين    الصحة: إجراء الفحص الطبي ل مليون و688 ألف شاب وفتاة ضمن مبادرة "فحص المقبلين على الزواج"    لقاح شينجريكس.. تفاصيل طرح مصل جديد للوقاية من الإصابة بالحزام الناري.. صور    بالصور- نجاح أول جراحة لتركيب مسمار تليسكوبى لطفل مصاب بالعظام الزجاجية في بني سويف    بعد غياب.. ملتقى القاهرة الأدبي في دورته السادسة يعقد مناقشاته حول المدينة والذاكرة    في ذكرى ميلاد الراحلة هالة فؤاد.. لماذا حاول أحمد زكي الانتحار بسببها؟    مواعيد الصلاة في التوقيت الصيفي بالقاهرة والمحافظات.. وكيف يتم تغيير الساعة على الموبايل؟    «مياه دمياط»: انقطاع المياه عن بعض المناطق لمدة 8 ساعات غدًا    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    المفتي: ثورة 30 يونيو كانت تحريرًا لأرض مصر من أفكار خاطئة (فيديو)    إقبال كثيف على انتخابات أطباء الأسنان في الشرقية (صور)    الخارجية الأمريكية تعلق فرض عقوبات على كتيبة "نتساح يهودا" الإسرائيلية    البيت الأبيض يواصل مساعيه للإفراج عن المحتجزين فى قطاع غزة رغم رفض حماس    بعد حادث شبرا الخيمة.. كيف أصبح الدارك ويب السوق المفتوح لأبشع الجرائم؟    مصطفى عسل يتأهل لنهائي بطولة الجونة للإسكواش ويستعد لمواجهة حامل اللقب "على فرج"| فيديو    وفد جامعة المنصورة الجديدة يزور جامعة نوتنجهام ترنت بالمملكة المتحدة لتبادل الخبرات    عاجل| مصدر أمني: استمرار الاتصالات مع الجانب الإسرائيلي للوصول لصيغة اتفاق هدنة في غزة    مزارع يقتل آخر في أسيوط بسبب خلافات الجيرة    «مسجل خطر» أطلق النار عليهما.. نقيب المحامين ينعى شهيدا المحاماة بأسيوط (تفاصيل)    25 مليون جنيه.. الداخلية توجه ضربة جديدة لتجار الدولار    قافلة جامعة المنيا الخدمية توقع الكشف الطبي على 680 حالة بالناصرية    قبل شم النسيم.. الصحة توجه تعليمات شديدة الأهمية للمواطنين    سويسرا تؤيد خطة مُساعدات لأوكرانيا بقيمة 5.5 مليار دولار    منها «ضمان حياة كريمة تليق بالمواطن».. 7 أهداف للحوار الوطني    مواصفات امتحان اللغة العربية لطلاب الصف الثالث الثانوي 2024 (تفاصيل)    موعد اجتماع البنك المركزي المقبل.. 23 مايو    طرق بسيطة للاحتفال بيوم شم النسيم 2024.. «استمتعي مع أسرتك»    كارثة كبيرة.. نجم الزمالك السابق يعلق على قضية خالد بو طيب    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 26 أبريل 2024.. «الحوت» يحصل علي مكافأة وأخبار جيدة ل«الجدي»    لماذا تحتفظ قطر بمكتب حماس على أراضيها؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دستور الأمة المصرية
نشر في الأهرام اليومي يوم 19 - 04 - 2019

المؤكد أن أهم نتيجة سياسية لثورة 1919 كانت هى دستور 1923 بكل ما تضمَّنه من إيجابيات عظيمة وما احتواه من سلبيات قليلة. وقد كان هذا الدستور الذى صدر بقرارٍ ملكى من السلطان أحمد فؤاد الأول تعبيرًا صادقًا عن الأمانى التى كانت تنطوى عليها عقول الثوار سواء من الذين طالبوا بالاستقلال التام أو الموت الزؤام، أو الذين طالبوا بوطنٍ يحكمه الشعب عن طريق مُمثِّليه، ويصوغ مستقبله دستور يؤسِّس لدولةٍ مدنيةٍ دستورية.
وتبدأ قصة الدستور ضمن الأمانى الوطنية التى انطوى عليها جناحَا الوفد المصرى فى مؤتمر باريس الذى ذهب للتفاوض حول مستقبل مصر وحصولها على الاستقلال الكامل. وخلال هذه الفترة حدث الخلاف بين سعد زغلول الذى كان مُمثل الأغلبية الشعبية الساحقة فى مواجهة مُمثلى الأرستقراطية المصرية من الليبراليين بزعامة عدلى يكن، وانتهى الخلاف بعودة الوفد من فرنسا مُنقسمًا على نفسه.
وتوالت الأحداث والمظاهرات فى السياق الذى دفع السلطان فؤاد للإعلان عن نيته فى وضع دستورٍ للبلاد، وأصدر قرارًا بتشكيل لجنة الدستور، وهى لجنة تتكون من ثلاثين عضوًا برئاسة حسين رشدى باشا، رئيس الوزراء السابق، ونائبه فى الرئاسة أحمد حشمت باشا، وزير المعارف السابق. وكان أعضاؤها الثلاثون من النُّخب السياسية العليا ذات الاتصال بالحُكم ورجاله، وكانوا من رجال السياسة المتصلين بالمَلك أو غيرهم من المُهادنين له، وأغلبهم من ذوى التعليم والثقافة غير التقليدية، وليس فيهم من يمكن أن يكون ممثلًا لنزعة ثورية حَدْيَّة أو متطرفة، فأغلبهم من أبناء الطبقة العليا الذين تعلَّموا تعليمًا حديثًا دفعهم دفعًا إلى قبول الفكر الليبرالى والانتماء إلى تياراته العملية مثل: على ماهر، وعبداللطيف المكباتى، وعبدالحميد بدوى، ومحمد على علوبة، وعبدالعزيز فهمى، وإبراهيم الهلباوى.
يضاف إلى ذلك من يُمثِّلون الثقافة والتعليم الدينى كالشيخ محمد بخيت، المُفتى الأسبق، والسيد عبدالحميد البكرى، شيخ الطُّرق الصوفية ونقيب الأشراف، والشيخ محمد خيرت راضى، كما كان فيهم من المسيحيين يوسف سابا باشا، وقللينى فهمى باشا، وإلياس عوض بك، وتوفيق دوس بك، كما كان عضوًا بها الأنبا يؤانس، نائب البطريرك وقتها، كما كان فيها أخيرًا يوسف قطاوى باشا، ممثلًا لليهود.
وربما كان أهم ما نلاحظه على هذا التشكيل أنه لا يضم واحدًا مِن أبناء الوفد الذين انحازوا إلى سعد زغلول فى مواقفه الحَدّية. ومن الواضح أن الملك فؤاد بنزعته الاستبدادية اختار من يمكن الاعتماد عليهم، أو مَن لا يسمح لهم باستغلال ما يمكن أن يتخلى عنه من نزعته الاستبدادية التى لم تكن تطيق سعدًا ولا رجاله الثوريين الذين صاروا على شاكلته فى الحِدَّة الثورية أو الراديكالية الجذرية، ولذلك آثر عليهم غيرهم من الإصلاحيين المُعتدلين، وأبناء الأرستقراطية من الليبراليين الذين قَبِل أن يختار عدلى يكن من بينهم رئيسًا للوزراء.
وعندما ترك عدلى رئاسة الوزراء احتجاجًا على تعنُّت الاحتلال البريطانى، أتى بعده بعبدالخالق ثروت رئيسًا للوزراء. وفى عهد عبدالخالق ثروت اجتمعت اللجنة الخاصة بصياغة الدستور أكثر من مرة، ولم يحدث خلاف يُذكر بين أعضائها، فقد كان أصحاب العقول الليبرالية هم أغلبية لجنة الصياغة. ولذلك لم تقبل اللجنة اقتراحًا صاغه أحد أعضائها عن نسبة تمثيل عادلة للأقباط. وكان أساس الرفض هو أن الدستور يُخاطِب جميع فئات الأُمَّة، ويعبر عنها دون تمييز، ودون أن ينحاز إلى طائفة على حساب طائفة أخرى، توافقًا مع المبدأ الذى صاغته ثورة 1919 فى هتافات أبنائها: «الدين لله والوطن للجميع»، فضلًا عن «وحدة الهلال مع الصليب».
وتذكر مضابط أعمال اللجنة أن الشيخ محمد بخيت اقترح على اللجنة فى 19 مايو 1922، أن ينص الدستور على أن دين الدولة الرسمى هو الإسلام، فطرح رئيس اللجنة حسين رشدى باشا الاقتراح للتصويت.
ولم يرفض الاقتراح أحد؛ لأن اللجنة رأت فيه تقريرًا لما هو واقع، فالمسلمون هم أغلبية الأُمة المصرية فى واقع الأمر، والأقباط كاليهود أقلية لم يكن عندها مُمانعة فى إضافة: «الإسلام دين الدولة الرسمى»، ولذلك أقرت اللجنة هذا الاقتراح بالإجماع، وذلك فى جو فكرى تسوده نزعة ليبرالية لا تعرف التمييز بوجه عام بين المسلمين وغير المسلمين، على نحو ما أظهرت وأكدت أحداث ثورة 1919، فضلًا عن أن نسبة غير المسلمين فى اللجنة لم تكن تزيد عن 20% من العدد الكلى للأعضاء.
والحق أن من يطالع مضابط أعمال لجنة إعداد الدستور يعرف إلى أى مدى كفل مناخًا من حرية التعبير ومناقشة سلطات الملك والشعب، والتمثيل النسبى لغير المسلمين، إلى آخر الموضوعات التى شملتها أبواب الدستور جميعًا.
لكن للحق أيضًا يجب أن نلاحظ أن هذه المادة الخاصة بالدين الإسلامى لم توضع فى صدارة الدستور، ولا بابه الأول الذى يتحدث عن الدولة المصرية ونظام الحُكم فيها، وهو الباب الذى يُحدد هوية الدولة، ولا فى الباب الثانى الذى يتناول حقوق المصريين وواجباتهم، ولا فى الباب الثالث الذى يتحدث عن السُّلطات الثلاث وضرورة الفصل فيما بينها، ولا فى الباب الرابع الذى يتصل بمالية الدولة وميزانيتها، ولا فى الباب الخامس الذى يتحدث عن القوات المسلحة، وإنما وُضعت فى الباب السادس وهو المعنون ب«أحكام عامة»، الذى تأتى المادة الأولى فيه وهى المادة 149 موضِّحة أن «الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية»، وهى مادة تدخل فيما يُسمى تحصيل الحاصل أو البديهيات، فالإسلام دين الأغلبية الذى لا يُناطح الديانة المسيحية أو الديانة اليهودية للأقليات غير المسلمة، وهو يشبه فى بداهته بقية المادة التى تنص على أن اللغة العربية هى اللغة الرسمية للدولة، فضلًا عن المادة 150 التالية للمادة 149، والتى تنص على أن «مدينة القاهرة قاعدة المملكة المصرية».
ولقد قرأتُ لأكثر من فقيهٍ دستورى أن المادة التى تضمَّنها دستور 1923، هى مادة لا يترتب عليها أى حكم من الأحكام التى تنطوى على تمييز دينى أو اجتماعى أو حتى سياسى، خصوصًا أن الدستور يؤكد فى صراحة تامة فى مادته الثالثة أن المصريين لدى القانون سواء. «وهم متساوون فى التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة، لا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين، وإليهم وحدهم يعهد بالوظائف العامة مدنية كانت أو عسكرية، ولا يولَّى الأجانب هذه الوظائف إلا فى أحوال استثنائية يُعيِّنها القانون».
يضاف إلى ذلك المادة الثالثة عشرة التى تنص على أن الدولة تحمى «حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقًا للعادات المرعية فى الديار المصرية، على أن لا يخل ذلك بالنظام العام ولا يُنافِى الآداب». وهى مادة تكتسب معناها السياسى، فى تأكيد مبدأ المواطنة من المادة الثالثة والعشرين التى تؤكد أن «جميع السُّلطات مصدرها الأُمة».
وكلمة «الأُمة» فى هذا السياق تعنى كل كل أفراد الشعب من المواطنين دون استثناء، كما تُغطِّى بالقدر نفسه كل الديانات الموجودة فى الأمة المصرية، لا فارق فيها بين مسلم ينتسب إلى دين الأغلبية أو مسيحى أو يهودى ينتميان إلى ديانات الأقليات.
ويعنى ذلك ببساطة أن دستور 1923 قد أَسَّس تأسيسًا سليمًا لما نُسمِّيه ب: «الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة». وأن أى اجتهاد من الاجتهادات المؤيِّدة لإنشاء دولة دينية فى مصر لا محل لها من الإعراب، ولا معنى لها أو قيمة فى حقيقة الأمر.
ولذلك فإن أية محاولة لإخراج دستور 1923 من سياق معانيه المُتكاملة أو دلالاته التى تستبعد أية صفة دينية عن مبادئه الأساسية، إنما هو أمر محكوم عليه بالفشل، فنصوص دستور 1923 تؤكد تأسيسه لدولة مدنية ديموقراطية حديثة، وأن الإشارة إلى الدين الإسلامى فيه، إنما هى إشارة عارضة لا ضرر فيها ولا ضِرار، ولذلك أكد الفقهاء الدستوريون أنها مادة لا تخرج على المعنى الحقيقى لمدنية الدولة الديموقراطية الحديثة التى تؤكد وجودها وحضورها المواد الرئيسية للدستور كله.
ولولا ذلك ما وُضِعت هذه المادة التى تنص على أن «الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية»، مادة من مواد الباب السادس الذى يتحدث عن أحكام عامة فرعية لا علاقة لها بتحديد هوية الدولة أو نوعية الحُكم المدنى فيها، شأنها فى ذلك شأن المادة 150 التى تقول أن «مدينة القاهرة عاصمة المملكة المصرية»، فلا فارق عمليًّا أو فقهيًّا أو معنويًّا أو حتى دستوريًّا بين دلالة النص فى المادة 149 والمادة 150.
كلاهما تحصيل حاصل ولا يترتب على أية واحدة منهما حُكم أو قاعدة دستورية تؤدى معنى من معانى التمييز أو أية دلالة من دلالات القانون الذى يفصل بين فئات الأمة التى تتراص وتتحد على أساس من المادة التى تؤكد أن «الأمة» بكل فئاتها وطوائفها هى مصدر السلطات، وأن الأصل فى الدولة هو المبدأ المُحايد للمواطنة التى تؤكد وحدة الوطن وليس انقسامه، وعلى أن المَلِك أو من يحل محله لا يكتسب شرعيته إلا بأن يُقسِم قَسم الولاء للوطن أمام نواب مجلسى الأمة والشيوخ على السواء، وكلاهما المصدر الأعلى للسُّلطات فى الوطن الذى تحكمه دولة وطنية مدنية وديموقراطية حديثة فى الوقت نفسه.
وهذا يبرر غضبة مصطفى النحاس ورفضه اقتراح الأمير محمد على فى أن يؤدى الملك فاروق صلاة الجمعة بالجامع الأزهر فى يوم 30 يوليو عام 1937، وذلك فى حفل دينى «يُدعَى إليه الأمراء وكبار الرسميين ومُمثلى الهيئات السياسية وكبار العلماء والشيوخ والقضاة، ويقف شيخ الأزهر بين يدى الملك ويدعو له، ويتلو صيغة معينة، ويُجيب الملك على كل سؤال فيها، ويُقسم اليمين بالولاء لشعبه والبر بقوانينه والعمل على رفاهية الأمة وسعادتها، ثم يقدم شيخ الأزهر سيف محمد على. ورأى الأمير أن يكون الاحتفال متناسبًا مع مكانة مصر الإسلامية، وعكف على دراسة ما كان يقوم به السلاطين العثمانيون يوم الاحتفال بارتقائهم العرش».
وقد كان هذا الاقتراح يشى برجعية الأمير العجوز الذى جمُدت أفكاره عند حدود الخلافة العثمانية ومعناها الدينى.
وبالطبع لقيت هذه الدعوة تأييدًا من الأزهر الذى رأى فيها مجالًا لتديين مظاهر التأييد وتأكيدًا لسلطته الدينية، وكان على رأس المؤيدين الشيخ مصطفى المراغى شيخ الأزهر الذى أراد – بدوره - تقديم الملك الشاب المُسلَّح بسلاح الدين فى نوع من التصدى لجماهيرية النحاس، فاجتمع مع علماء الأزهر وأرسلوا برقيات تأييد للأمير محمد على، موافقين على اقتراحه.
كما لقيت الدعوة تأييدًا بالقدر نفسه من الإخوان المسلمين، حيث ذكر الشيخ حسن البنا «أن المسلمين فى الخلافة كانوا يرجعون إلى الخليفة فأين هو الآن؟! علينا أن نعمل جميعًا على إيجاده». وكان هذا الإعلان الاستفهامى تأكيدًا للهدف السياسى للإخوان المسلمين الذين تأسست جماعتهم سنة 1928، وفى الوقت نفسه كشف عن أهدافهم التى كانت تهدف إلى إنشاء دولة دينية غير ديموقراطية، يتحالف فيها فقيه السلطان مع الحاكم المستبد، والجماعة الدينية مع ملك مستبد، يكون مُلكه استعادة للخلافة العثمانية التى سقطت بعد عام من صدور الدستور.
وتذكر الدكتورة لطيفة سالم فى كتابها – عن الملك فاروق- أن النحاس باشا رفض هذه الفكرة، وأقنع الملك الشاب فاروق بما هو موجود فى دستور 1923 من النص على ضرورة تأدية المَلك اليمين الدستورية تحت قبة البرلمان. ونجح النحاس بالفعل فى إقناع الملك الشاب فى التخلى عن هذه الفكرة التى لم تكن فى مصلحته. ولذلك أبلغ الملك فاروق النحاس برفضه فكرة تنصيبه ملكًا فى الأزهر، اقتناعا منه بمخالفة ذلك للدستور.
وقرر تولِّى سُلطاته الدستورية بتأدية القَسم فى اجتماع عام يضم مُمثلى الشعب من البرلمان ومجلسى النواب والشيوخ على السواء. ورغم ذلك سعى الأمير محمد على إلى إعادة عرض الفكرة مرة أخرى ولكن بعد تعديل يجعل الملك يؤدى صلاة الجمعة فى ثانى يوم من أيام احتفاليات تنصيب المَلك فى جامع الأزهر الشريف، وأن يتلو شيخ الأزهر دعاءً خاصًّا. ووافق فاروق على ذلك، لكن النحاس رأى فى هذه الصلاة والدعاء الخاص عودة إلى الحفلة الدينية، فرفضها واستجاب الملك إلى هذا الرفض، وانتهت الأزمة بموافقة الملك فاروق على أداء القسم أمام البرلمان فقط، ثم زيارة قبر محمد على باشا - مؤسس الأسرة العلوية - دون أى احتفاء دينى بتنصيبه مَلكًا لمصر.
هكذا نجح دستور 1923 فى أول اختبار حاسم له، وذلك بفضل إصرار النحاس باشا الذى تعلَّم الإيمان بالدولة المدنية الديموقراطية من أستاذه سعد زغلول الذى اكتسح الانتخابات التى أُجريت بعد إعلان الدستور، فى عهد رئيس الوزراء المحايد والنزيه يحيى إبراهيم باشا، ففاز الوفد بالأغلبية الساحقة، ولم ينجح يحيى إبراهيم فى دائرته التى فاز فيها الوفد، فأصبح سعد زغلول رئيسًا لوزراء مصر، تمامًا كما أصبح تلميذه مصطفى النحاس رئيسًا للوزراء فى أواخر عهد الملك فؤاد وأوائل عهد الملك فاروق. وكان هذا الموقف من النحاس باشا واحدًا من المواقف المُضيئة فى تاريخه السياسى الذى لم يُفارقه الإيمان بالدولة المدنية الديموقراطية الحديثة. ولعل هذا الإيمان كان هو السبب وراء شعبية النحاس باشا وحزب الوفد على السواء.
وهى الشعبية التى ظلت حائط صد أمام الإخوان المسلمين؛ أعنى حائط صد لم ينجح الإخوان فى اختراقه طوال تتابع الأحزاب التى التزمت بدستور1923، والتى لم تُمكِّن الإخوان المسلمين من دخول البرلمان قط، وظل البرلمان المصرى كمجلس الشيوخ حصنًا منيعًا ضد الإخوان المسلمين الذين ظلوا فى الهامش السياسى، إلى أن تغير الوضع مع ثورة 23 يوليو 1952، ومحاولاتهم الانتهازية فى التقرب من قيادات الثورة الذين سرعان ما اكتشفوا سوء طويَّتهم فى أزمة مارس 1954، فأظهروا لهم الوجه الآخر من ثورة يوليو 1952، وهو الوجه القمعى الذى قمعهم فى السجون والمعتقلات بعد أن حاولوا الاستيلاء على الحُكم، ومواصلة إرهابهم القمعى لإقامة دولة دينية لم يفلح تحالف الأمير محمد على برجعيته العثمانية ولا تحالفه مع شيخ الأزهر فى إقامتها، كما لم يفلحوا كذلك فى أن يوقفوا صوت الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة الذى دوَّى فى كل أرجاء مصر مناديًا بدولة مدنية ديموقراطية حديثة لا نزال نَحلم بها إلى اليوم.
(وللمقال بقية)
لمزيد من مقالات جابر عصفور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.