جلس (أيوب المصري) على (المصطبة) التى تُطل على حيث نجتمع، تملك هذه المصطبة قدرة مُذهلة على فتح مساحات للرؤية بمستويات متعددة المشاهدة ومتباينة طبقات الحضور، قرَّر (أيوب) الاستعداد والتأهب لمتابعة تفاعل بنى قومِه مع الحدث المصيرى المُتَمَثِّل فى (الإعلان عن التقاط أول صورة للثقب الأسود)، وتمثَّل الاستعداد فى (منقد فحم) يجلس عليه (براد) نحاسى عتيق المنبت رغم ما يعلوه من آثار عقودٍ تبدلت عليه آثار خلالها أنواعُ النيران بينما هو يغلي، فيما يجاور (أيوب) على مصطبته (لِبْشَتَين) من عيدان القصب، فالحدث جلل والتفاعل مؤهلٌ ليكونَ أجَلّ. كانت للذِكرى ألسنٌ من ألق تنير فى روح (أيوب) كل مدي، وتفتح لأنفاسه كل مسام لتنسم عبق ما كان أملًا فى تجاوز ما هو كائن، لبلوغ ما يليق بوطن مثل (مصر) ليكون وتكون ولنكون معه على خريطة الوجود حضوراً، تقول الذكرى الموثَّقة إن المصرى القديم ربط عباداته بالشمس مُطلقًا عليها اسم (رَعْ)، وخلف لنا من أثر هذا اليقين صورًا تجسد (رع) محمولًا على قارب (شو) يسبح فى الفضاء، يحمله حين تغيب الشمس الى العالم السفلى (دات)، ليأتى نائبه (القمر /تحوت) ليحل محله، كان للأجداد إيمانهم الذى ترجموه علمًا ليصنعوا به حضارتهم، فابتكروا أدوات للرصد الفلكى وتحديد مواقع الأجرام، وكانوا أوَّلَ من قسم السنة الى (360) يومًا، وكان لهم سنة قمرية مقسمة إلى اثنى عشر شهرا، كانت الذكرى الدافع الأساسى لتأهب (أيوب) لمتابعة الحدث. وكان أن أعلنت وكالات الأنباء العالمية أن مشروعًا دوليًا مشتركًا بدأ عام 2012 فى محاولة لرصد بيئة الثقب الأسود باستخدام شبكة عالمية من أجهزة التليسكوب المتمركزة على الأرض، واسم هذا المشروع (إيفنت هورايزون تليسكوب)، وعبره أعلنت الباحثة الشابة (كاتى باومان)، اكتشاف (خوارزمية ساعدت بشكل أساسى على تصويرالثقب الأسود بعدما ظل البشر يسمعون به طيلة عقود دون أن يتمكنوا من رؤيته بالعين). وكان أن سوقت وكالات الأنباء للحدث، وبدأت وسائل التواصل الاجتماعى توجه طاقاتها نحو التفاعل مع الحدث العلمى ومع (المقطع المصور) إلى تحول فى دقائق إلى متصدر لجميع وسائل التواصل الاجتماعي، وهكذا حدثٌ يفرض على (أيوب) أن يبدأ المتابعة عبر صب أول كوب شاى ومص أول عود قصب، فبالتأكيد سيكون التفاعل مع الحدث مصارحة للذات المصرية بحجم المسافة التى تم تفويتها فى سباق الحضور الإنساني. فى حلبات التفاعل المصرى الإنسانى مع الحدث، لم يختلف الواقع كثيرًا فى تجمعات (المولات والكافيهات)، عنها فى اجتماعات المقاهى والحارات، القاعدة الأساسية الحاكمة لكلٍ تفاعل إلكترونى أو مباشر تتلخص فى مرحلة أولى هى طرح الحدث عبر منصة الفاهم الواعى الملم بكل التفاصيل، ثم مرحلة ثانية هى الترقية على الطرح عبر منصة الأفهم والأوعى والأكثر إلمامًا، لتبدأ مرحلة ثالثة هى نقد الطرح من قبل من يرى منصة النقد هى منصة الحضور وسط من يدعى الفهم والوعى والإلمام، لتحيلنا هذه المحطة إلى التشتت والتفرق عبر انسحابات نحو قوقعة الرفض إيمانًا أو الرفض شكًا أو الرفض سخريةً أو الرفض صمتًا، ليستحيل الجميع رافضين رفضًا حتم الهرب من مواجهة ذواتنا وواقعٍ مهِدِد للوجود تستفحل تهديداته. كانتْ أكواب الشاى تتوالى صبًا من (براد أيوب)، وكانت (مصاصة) القصب قد استحالت أكوامًا من حوله بينما هو يُتابع حوارات الكافيهات الخاصة بنقد ما أعلنته (باومان)، حيث يرى الشاب (الكُول) فى طرحه على الشابة (الكول) أن الباحثة لصة وأنانية خصت نفسها بالإعلان (علشان تقول إن البنات أحرف من الولاد فى العلم ده)!، بينما رأى الرجل (الكُبَّارَه الحِدق) أن هؤلاء, الغرب, ناس تحيا فى رفاهية الأفكار (خلَّصوا كل مشاكل العالم ورايحين يدوروا على الثقوب السودة وأى حاجة والسلام علشان يقولوا إنهم عُلَمَا). أما الأخ الذى يقطر الإيمان من لحيته وربما من جلبابه القصير أو حتى من ابتسامته التنظيمية المعلبة فيقول (أصلًا الثقب الأسود منصوص عليه فى القرآن)، لكن آخر أكثر منه إيمانًا وورعًا يؤكد (أنها فتنة فى الدين يطرحها الكفرَة والملاحدة ومن ينساق خلفهم سيحشر معهم)، بينما يرى الأسطى الفهيم (أن هذا شغل إيهام وجرافيك) ويردد مقولة (الكبير قوي) فى مسلسله (آدى آخرة الحاجات اللى عَتْجَقِطْهَا علينا أمريكا). تصبح أكواب الشاى مع مصاص القصب تلالاً تفصل بين (أيوب المصري) ومجالس نقاش المصريين حول (الثقب الأسود)، يقوم من مجلسه ينفض ماعلق بملابسه من بقايا قشر القصب، ويتكئ على عصاه متجها نحو طريق طويل ممتد ترسمه الحارة المصرية أمامه وفى مداه البعيد شمسٌ لغد مقبل، يلتفت خلفه يجدنا جميعًا نجلس فى (ثقب أسود) .. تحمله خطواته نحو قرار أكيد (الهرب من الثقب الأسود). لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى