بعد نقده المتوالى الشيوعية الماركسية كان لابد أن يغادر باومان بولندا، فذهب إلى إنجلترا، حيث التقطته جامعة ليدز... وقد فوجئ باومان بأن معرفة الإنجليز محدودة للغاية بمجالات وتيارات علم الاجتماع العالمية فى ذلك الوقت، أى تقريبا فى منتصف القرن العشرين، وهو أمر لم يكن يتوقعه على الإطلاق... فقد كانوا يجهلون تماما على سبيل المثال علم الاجتماع الفرنسى أو الألمانى، وقد ناضل باومان كثيرا من أجل إدراج علم التأويل hermenevtic ولم يكن الإنجليز قد سمعوا عنه، ولهذه الأسباب يجد نفسه مدينا للتكوين الفكرى الذى حصل عليه فى جامعة وارسو، والذى قام بتحصينه ضد النزوع إلى صياغة حقائق ختامية ونهائية واطلاقية، وهى مرونة لم تكن نابعة من النسبية، بل كانت تشكيكية، فهو يرى أننا جميعا فى طور التكوين طوال الوقت، وعلى ذلك فهو لا يركن لأى مفكر يدعى المعرفة النهائية ثم يخلد إلى الراحة، وكأن لا جديد بعد ذلك. إن على المفكر أن يدقق باستمرار ويتساءل بعد تفكير عميق ودوام البحث، وهنا ما تعلمه من أساتذته فى جامعة وارسو. كان فى إمكان باومان أن يعيش فى هدوء لماضيه كمعارض، ولكنه سرعان ما ابتعد عن المسار الكلاسيكى للمعارضة الشيوعية التى تحولت إلى الليبرالية، ومعاداة الماركسية، وذلك لأن مصالحه واهتماماته كانت تختلف عما يقوله المنشقون السوفيت، وعندما وصل إلى إنجلترا حاولت عدة مؤسسات مختصة فى تحليل، ودراسة النظام السوفيتى استقطابه، واقترحوا عليه أن يصبح اخصائيا فى هذا الشأن، وكان هذا هو الفرع الوحيد قيد الاهتمام من العلوم الاجتماعية، حيث تقام له مؤتمرات دولية عدة، ولكن هذا لم يحرك اهتمامه، لقد كانت اهتماماته الفكرية دون إدراك الواقع الحقيقى لها مناقضة تماما لذلك التوجه، فقد كان مهتما قبل كل شىء حتى فى المجتمعات المستقرة إلى حد ما بما هو مفقود، وما لم يكن يسير سيرا حسنا، ويدل هذا على أن باومان لم يكن يقنع بالحلول الوسط، وكان دأبه دائما هو البحث عن الأمثل، وهذا هو هدف المثقف المفكر الحقيقى، وليس مثل مدعى الثقافة عندنا فى مصر لا نعرف ماذا يريد كل منهم، وما هى أهدافهم الواضحة فى سبيل نهضة ورقى مجتمعنا. ويواصل باومان كلامه، حيث يقول إن فى فرنسا كان كور نيليوس كاستور ياديس هو قدوته، وذلك فى طريقة التفكير، وهو لم يكتشف ذلك إلا عندما قرأ أعماله باهتمام شديد، خاصة مأثورته التى يقول فيها: «إن ما يعوز المجتمع اليوم هو توقفه عن مساءلة نفسه».. ولهذا اعتمد باومان طوال الوقت منهج التساؤل، وعلى وجه التحديد كنه المشكلة، وذلك فى المرحلة الأولى من حياته، حيث كان مراجعا للتاريخ، ويقوم بنقد الطريقة التى طبقت بها الشيوعية فى بولندا، وكم نادينا نحن فى مصر أن تقوم «الجمعية التاريخية بمراجعة تاريخنا الحديث مراجعة علمية دقيقة بضمير وطنى دون خوف أو انتهازية أو تحيز أعمى حتى لا يضلل الناس من هم يدعون أنهم مثقفون أو من يطلق عليهم بالمفكرين». وعندما وصل باومان إلى إنجلترا، فإن أول ما فعله هو كتابة نقد للحداثة ثم كتب نقدا لما بعد الحداثة... ويظل هدفه ثابتا، وهو يتمثل فى النقد دائما، وبشكل مستمر، وهذا هو بالتحديد السبب فى أنه لم يكن ليشعر على الإطلاق بأنه فى مكانه الصحيح لو بقى مع المختصين فى الشأن السوفيتى، الذين هم فى رأيه يعتمدون على مبدأين فكريين ثابتين، أولهما هو إدانة المجتمع الشيوعى، أو بمعنى أكثر دقة المجتمع الاشتراكى. والثانى هو الافتراضات بأن العلاجات يمكن العثور عليها فى الرأسمالية والسوق الحرة، فهناك لونان فقط وهما الأبيض والأسود... وكانت هذه الثنائية سمة كلا النموذجين المهيمنين على علم الاجتماع، إلا أن الألوان تتغير، فما كان أسود هنا كان أبيض هناك والعكس صحيح، ولذلك لم يكن راضيا عن حالة تلك المعرفة، وكان يستحيل الانضواء تحت رايتها، فهو يرى أنها وصفة مثالية لتجريد السوسيولوجيا من أى علاقة لها بالحياة الاجتماعية، فى حين أن جوهرها بالنسبة له هو التحاور الدائم بين جميع التجارب الإنسانية المختلفة للحياة الاجتماعية، ويرى باومان أن ما يقوم به هو وعلماء الاجتماع هو اعادة تدوير تجارب الوجود البشرى المختلفة ضمن العالم على الأقل، وهذا هو المسار الذى يتبعه. ويرى البعض أن الموقف الفكرى الذى يصفه باومان قريب جدا مما وصفه إدوار سعيد بوضع الغريب outsider والذى ربطه بوضعية المنفى الذاتى، وقد وصفوا باومان بأنه غريب، فإذا به يقول إنه كان محظوظا، وأن القدر قد خدمه لأنه بتعبير فكرى، خاصة فى العالم الثقافى أن المرء غريب، وهو وضع متميز، فإن كونه بلا روابط أو قيود مكانية إذا جاز التعبير يعنى أنه غير قابل للتحديد والتعريف، وأن واقع كونه قادرا على تجميع خبراته المختلفة فى رحم عدة أنواع من المجتمعات، لم يكن أى منها موطنه الطبيعى الذى بإمكانه أن يشعر فيه بأنه فى بيته هو أمر مفيد جدا، فأن يكون المرء فى إنجلترا منفيا أو أجنبيا أو أيضا غير معروف هو أمر مريح للغاية، غير أن ذلك يعتمد على الوضع الاجتماعى الخاص بالمرء بطبيعة الحال، فهناك الكثيرون فى ضواحى لندن يعانون بالتأكيد، لأنهم يتحدثون لغة مختلفة أو لأن لون بشرتهم مختلف قليلا، ولكن فى الكلية تختلف الأمور، لأن المجتمع يتسامح مع المرء. يقول باومان إن ما يشغله دائما هو القيمتان الاساسيتان وهما «الحرية» و «الأمن» اللتان تشكلان حياتنا الاجتماعية والسياسية، وهو يرى أن الناس سعوا فى منتصف القرن العشرين إلى المزيد من الحرية، وكانوا مستعدين للتخلى عن بعض الأمن لكسب المزيد من الحرية، والوضع الآن فى طور الانعكاس، وأصبح الناس على استعداد بالفعل للتخلى عن بعض حريتهم للاستفادة من المزيد من الأمن، لكنه يواصل التكرار بأن هذا الاستعداد يعزز فقط واقع العولمة، لأنه غير خاضع للقيود، وأن هذا الانعكاس لا يشمل ذلك المستوى النظامى غير الواقعى إلا على المستوى الفردى حتى إن كان واسع النطاق، فإننا بابتعادنا عن تلك الحقائق العالمية واهتمامنا بأمننا المحلى، فإننا نحرم أنفسنا من جزء من ذواتنا بدل محاولة حل المشكلات التى تسببنا فيها على الصعيد العالمى، كما أن عنايتنا بشأننا الخاص هى تفضيل لحلول منافقة ومطمئنة، وسوف يتجلى لنا فى النهاية أنها قاصرة. لمزيد من مقالات مصطفى محرم