كما أوضحت فى المقال السابق كان مدخلى الى القراءة جرائد هزلية كالبعكوكة والفارس انتقلت منها الى السير الشعبية لسنوات عديدة، أما مدخلى الى السياسة فكان المانشيت الرئيسى لاحدى الصحف اليومية فى شهر فبراير 1945 «اغتيال احمد ماهر باشا / اعتقال الجانى الأثيم» كان هذا المانشيت لغزا بالنسبة لى لا أعرف معنى كلماته اغتيال، اعتقال، الجاني، الاثيم وكانت هذه اول مفردات قاموسى السياسى سألت ابى عن معانيها فشرحها لى وبعدها كنت اتابع مثل هذه العناوين فى الصحف التى كان بيتنا لا يخلو منها كل يوم بحكم اهتمامات والدى عمدة القرية وعضو حزب الوفد. ومن 1945 الى 1946 حيث وجدتنى فى قلب السياسة وذلك بمناسبة انتخابات مجلس النواب فى عهد اسماعيل صدقى باشا رئيس الوزراء، حيث رشح حزب الوفد على بك مروان فى دائرتنا الانتخابية ورشح سيد باشا البدراوى عاشور ابنه حسن باشا فى نفس الدائرة عن حزب الكتلة الوفدية الذى يرأسه ويليام باشا مكرم عبيد المنشق عن حزب الوفد، وقرر حزب الوفد أن يناصر مرشحه بجولة دعائية فى الدائرة يقوم بها فؤاد باشا سراج الدين سكرتير عام حزب الوفد وهو فى نفس الوقت ابن اخت سيد باشا البدراوى عاشور، وقبل زيارة فؤاد باشا للدائرة بعدة ايام ارسل البدراوى باشا الى ابى 500 جنيه طالبا منه استئجار عدد من الفلاحين للتصدى لموكب فؤاد باشا ومنعه بالقوة من دخول الدائرة وكانت قريتنا «تيرة» مركز طلخا ضمن منطقة نفوذ واملاك البدراوى باشا، ولكن ذلك لم يمنع أبى من رد المبلغ إليه قائلا لرسوله قل لسعادة الباشا إن فؤاد باشا سيمر بالدائرة رغم أنف أى معارض لذلك، وحشد الباشا عددا كبيرا من الفلاحين جاءوا إلى قريتنا لمنع فؤاد باشا من بدء جولته وخرج أهالى قريتنا وضربوا رجال الباشا وطاردوهم بمن فيهم أولاده الى معقل نفوذ الباشا الكبير الذى جن جنونه وصدر قرار بإيقاف أبى من العمودية وإعلان الأحكام العرفية فى القرية ومنع التجوال بها من المغرب إلى الصباح وجاء جنود الهجانة يفرضون هذا القرار بالقوة راكبين الجمال وبأيديهم الكرابيج وهكذا كانت تفاعلات السياسة وانعكاسها على قريتنا التى كان يجتمع كبارها فى بيتنا مساء كل يوم حيث يتم قراءة الصحف ومناقشة أوضاع البلاد، حيث كانت الحركة الوطنية المصرية قد بدأت باضرابات الطلبة والعمال والمناداة بالاستقلال والحرية ورغيف الخبز وأطلقت قوات الاحتلال النار على المتظاهرين بميدان الاسماعيلية «التحرير حاليا» وفتح البوليس النار على المتظاهرين فوق كبرى عباس وفتحوا الكبرى لمحاصرة المتظاهرين الذين ألقوا بأنفسهم إلى الماء فمات منهم عدد كبير بالرصاص وغرقا. وكان ابى يستأذن الحاضرين أن اقرأ المقال الرئيسى لجريدة صوت الامة التى أصدرها الوفد بديلا لجريدة الوفد المصرى التى صادرها صدقى باشا. هكذا فهمت من الاحداث التى كان يصل الينا صداها أن البلد فيه أحزاب متعددة وأن هذه الأحزاب تتنافس فيما بينها للوصول إلى السلطة وأن هذه الأحزاب تعبر عن مصالح مختلفة كان هذا هو جوهر السياسة التى واصلت تتبع أحداثها فى مصر. كانت اللقاءات اليومية لقراءة الصحف فى بيتنا تنقل إلينا ما يحدث فى مصر والمنطقة العربية والعالم بما فى ذلك نضال غاندى ضد قوات الاحتلال البريطانى والذى كان يوصف بالمقاومة السلبية أى من خلال أعمال سلمية غير عنيفة، لكنها تضعف سلطة الاحتلال ومن الغريب فى الأمر أن قريتنا قررت تطبيق هذا الأسلوب فى الانتخابات بالامتناع عن المشاركة فيها احتجاجا على نقل لجان الانتخابات إلى قرية الباشا، وعندما وصلت الساعة الى العاشرة يوم الانتخابات دون أن يشارك فيها رجال قريتنا جن جنون الباشا وجاء إلى القرية يجول فى شوارعها الرئيسية باحثا عن الرجال فلا يجد أحدهم وإنما يجد النساء جالسات على أبواب البيوت فيسبهن, وكانت هذه أول تجربة للمقاومة السلبية فى مصر. لم يتحمل أبى ضغوط البدراوى باشا فمات بالسكتة القلبية فى العام التالى وواصلت اهتمامى بما يجرى فى السياسة فى مصر، وجاء عام 1948 ليشهد إعلان قيام دولة إسرائيل ودخول الجيوش العربية الحرب لمنع ذلك ولكن المواجهة انتهت بالهزيمة وفى نفس الوقت كانت المظاهرات والاضرابات متواصلة فأعلنت جماعة مصر الفتاة تحولها الى الحزب الاشتراكى بقيادة احمد حسين وإبراهيم شكرى وانتمى عمى محمود إلى هذا الحزب الذى ينادى بالاشتراكية وفتح شعبة له فى قريتنا ليضاف إلى قاموسى السياسى قضية الاشتراكية، فضلا عما سبق ان استوعبته من متابعة الحركة الوطنية فى جوانبها السياسية والوطنية. وبدأت مرحلة جديدة فى حياتى مع عقد الخمسينيات. لمزيد من مقالات عبد الغفار شكر