الطالع.. مبلل بماء البحر المالح.. على خيال عجوز يُلوّح بيمناه.. (أسرع).. صبحى الأحدب النشيط يعرفك، يفتح لك الباب بدون صوت، يمر منفردًا فى صمت الردهة.. ينصرف عنك إلى شغله فى المطبخ أو الحجرات الأخرى. تخطو ببطء حين تزوغ عيناك من الأرض إلى السقف.. لوحات مركبة فوق بعضها.. أنا أعرف من أنت وما أنت، التخيل عندك من أقوى الحواس، وتستطيع باقتدار رسم أى شخص عاريًا وهو فى كامل ملابسه، عراياك كانوا يستحقون الإقامة هنا، سافروا إلى العالم المفتوح وهم ينبئون عن عبقريتك بعيدًا عن الاستبعاد والشرعنة، عمينا عن النظر فى زمن النفايات، أنت البحر ممتد، الأبهة.. ياه.. قميصك المشجر المتماهى فى صفحة البحر.. كطفل جالس القرفصاء عاريًا وسبابته على فمه.. النافذتان مفتوحتان بضوء الشمس الواهن.. المائدة الخشبية العتيقة، عاصمة الميدان.. كتب ومجلات، وعلب ألوان، ومجموعة باليتات بيضاء، شعره الفضى المتدلى على كتفيه يستنشق عبق سجائره طوال الوقت.. رنة جرس نحاس صغير.. استدار بوجهه ناحية الباب يا صبحى.. هات لى سجائر... لمحنى فابتسم.. وأشار لى بالدخول.. جئت؟ الشاعر القبانى.. قال.. سألت عنى.. كنت فى البحر.. وجود شخص غيره فى محرابه، يفتح عليه بابًا على حارة شعبية مكدسة بالحياة التى اغتالته وشقيقه أدهم بالرطوبة من تدفق سخونة المكيفات المركونة على نوافذ بدروم تحت سطح الرصيف هو الذى منحهما الربو والسُل المبكر.. (لو جاءتنى فرصة أنا وأدهم أفضل من الموجودة فى الإسكندرية.. لم يتم تقديرنا.. شعورنا.. بأننا محط اهتمام الفنانين أصدقائنا كاف). لا يجوز أن يصدر كتاب لصديقى «يحيى حقى» بغلاف سيىء.. غريبة.. جعلوه كشخص يبكى. سأرسم غلافًا آخر.. لأحتفظ به.. السحابة القادمة من البحر.. لحظة بلحظة تتمدد.. تسحب وراءها نتف من السحب الضعيفة السميكة الزرقاء، تشق الأبيض على رصيفها فيتمزق طائعًا.. كأنها سراديب أو شباك صيد فى حضور عاشق عجوز.. تلك الصورة التى لا تزال تؤرقنى عن الزعيم.. ثمانية عشر حصانًا فى نصف هلال.. بأقدام يسيل منها العجز والانكسار والهزيمة.. الرءوس منكسة، صماء، لا تذكر شيئًا وهى مقوسة القمة.. خمسة أسطر محفورة فى عجائن تحت الأقدام من العنق إلى ما تحت السرة.. تسللت الشمس من دائرة العقل إلى جوف الظلمة. رجعت.. توسخ الحوائط بالألوان هى.. ألوان شمع.. ارسم ذيل العصفورة. سأخبر جدتك.. لا.. لا.. أرجوك.. آخر مرة.. أنت تضحك على.. هل يعجبك ذيل العصفورة أم رأسها أم الأجنحة. ابتعد عنى.. اتركنى أنظف البهو.. أنت القادم من سراى الباشا.. الحديقة الواسعة ذات المماشى المفروشة بالحصى الأبيض.. بصفوف النخيل وشجر الجوافة والليمون لا أنسى الطيور عند المغيب.. لوحاتك من هنا.. بعيدة عن العالم المفقود.. القامات المبتورة فعلها بيكاسو بعين واحدة وفم مفتوح، موسيقا لكائن خرافى يُدعى بيتهوفن.. فى طرف العالم يدخل الرجفة إلى قلبى ويرحم أنقاضى بعضها فوق بعض، فى كل فرشاة تتدلى.. كما السيجارة فى صمتها وبهجتها على فم حساس.. اقتربت من مجلسه مندفعًا لأقبل رأسه.. ضربت قدمى السلم الخشبى القصير عند الركن.. سقطت نتيجة حائط ملونة.. استقبلتها فى حضنى بسرعة.. صاح الأستاذ فى سرور (أنت ابن حلال). معذرة.. هذا غلاف كتالوج بينالى الإسكندرية.. تاه منى.. وهم يستعجلونى. رائعة.. صبحى.. غلاف البينالى وجدناه.. (قال الأستاذ). جاءنا صوت فقدت صاحبته أعصابها (اتصل بالتليفون وهم يتصرفون صبحى مشغول). أستاذى.. تسمح لى بهذا الشرف.. معك سيارة؟ لا يهم.. تغمرنى ابتسامته بالود والصداقة.. الأمطار غزيرة.. سأتصرف.. (جعلها داخل الچاكت الجلد). خذ.. تذكرتان لحضور أوبرا بيتهوفن.. فى مسرح سيد درويش.. شكرًا.. وحضرتك..؟ أنا.. أدخل كل يوم.. تقريبًا.. حياتى كلها أوهام وأطياف تؤكد وجودها الألوان والأصباغ المتداخلة الأنغام والمقامات على قطع من القماش أو الورق، يعيش فيها معى كل من يحب الحياة التى تسمو إلى عالم الوجدان.. أعيش وحيدًا.. يأتى من خرج.. (ههه) سألك أحد؟ أحدهم انصرف بها إلى المطبعة.. عدد كبير فى المتحف.. خيل لى.. كانوا يعلقون صورة للموناليزا.. (كانت تسكن فى وادى النعيم.. سكان هذا الوادى يمتازون بطهارة القلوب.. بعد غيابها فترة.. عثر عليها عاشقها فجذبها إليه بلمسة أصابعه وهو يدير وجهه عنها حتى لا يراها، مكتفيًا بأخذ يدها ويقودها فى الوادى.. ويظل صاحبها ممتنعًا عن رؤية وجهها، ولكنه يناوبها من خلفه ويحثها على متابعته بسرعة.. وهى فى منتهى التذمر لعدم مبالاته بها وعدم النظر إليها ولو بنظرة واحدة.. لأنها تفضل الموت عن عدم حبه لها، وهو يصمّ أذنيه ولا يستجيب لتوسلاتها.. وهى للآن لا تعرف أى معنى لتصرفاته الشاذة.. وحين يرضخ.. بناءً على إلحاحها الشديد.. يرمقها بنظراته..فتسقط فى الحال على الأرض.. وجه هادئ وابتسامة البُسطاء.