صبيحة جُمعَةٍ من أيام واقعنا القاسي، ينطلق شابٌ استرالى مُدَججًا بالسلاح، نحو مسجدين فى الدولة الساكنة بالمحيط الهادى (نيوزيلاندا)، ينطلق قائدًا سيارته فيما تنبعث موسيقاه الخاصة من حوله، وتلتصق به (كاميرا) تُوَثِق دقائق التوحش وتبثها عبر شبكات التواصل الاجتماعى لحظة بلحظة، فيما تتابع تعليقاتٌ آنيةٌ تحتفى وترحب، يقتحم (الذئب المنفرد) ساحات أهدافه لتتناثر فوارغ الطلقات مع تناثر الجثث والأشلاء، وليكون على إدارة العالم أن تواجه توحشًا صُنِعَ على عينيها!. دعونا ننطلق بعيدًا عن خانات الشجب والإدانة والرفض، ونتحرك بعيدًا عن ساحات صلوات الخشوع وقفات الشموع ودعوات الدموع، ونُعمِل العقول دون أن تكبلها أهوال الصدمات، وأصوات الطلقات، وأوجاع الآهات، ومشاهد رحيل أرواحٍ مغدورات، فالتهديد ليس موجًها صوب منْ غُدِروا، والهدف ليسَ منَ آمَنَ بإلهٍ أو أنكر، والمُستهدَف لن يكون مسجدًا أو كنيسة أو معبدًا أو كنيسا، ولن يقف عند حدود ملهيً ليلي، أو مسرحٍ أو ساحة مهرجان فنى أو ملتقى ثقافى أو تجمع روحانى صوفي، ولقد سبق أن قرَع المِدادُ كل نواقيس الخطر فى آذان الوعى الإنسانى عبر سلسلة مقالاتٍ بدأت عام 2017، يمكنُ للقارئ الرجوع إليها فى أرشيف الأهرام بحثًا عن عناوين أساسية هى (الذئاب المنفردة) و (جند الفزع)، وفى المقالات ما يمكن توصيفه بحصاد بحث مستمر- عن تطور استراتيجيات وأدوات صناعة (الفزع). والسؤال الذى يجب أن نطرحه على ضمير الإنسانية فى القرن الحادى والعشرين، هل حقًا تألمت إدارات العالم لمشاهد الدماء التى سالت فى مسجدى نيوزيلاندا، أو فى كنيسة القديسين بمصر أو فى احتفالٍ شيعى بالعراق، أو فى عرسٍ استهدفه القصف باليمن، أو فى استهداف مقر شارل إبدو فى فرنسا، أو فى ملهى ليلى فى أمريكا؟.وحتى نتمكن من مجابهة الخطر المحدق بالإنسانية، علينا أن نكون أكثر صراحة فى طرح التساؤلات على ضمير الإنسانية، هل كل أدوات الانتشار لجراثيم العنف والتطرف والإرهاب المؤدية لشيوع الفزع تتنامى بعيدًا عن رعاية إدارات عالمية لها، وهل تتطور هذه الأدوات دونما رصدٍ من أجهزةٍ أمنية عالميةٍ؟، وحال الرصد هل يتمُ تجفيف منابع هذه الأدوات أم يُصبِح استثمارها أكثر فائدةً من تقويضها؟. بحسب ما هو مُعلن فإن تاريخ 23 مارس 2017 شهدَ ميلاد أول نسخة للعبة إلكترونية تحمل اسم PlayerUnknowns Battlegrounds ويُرمز لها اختصارًا ب (pubge)، وتعنى (ساحات معارك اللاعبين المجهولين)، وخلال عام واحد تم تطوير اللعبة لتُصبح فى متناول كل حاملى الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر فضلاً عن أجهزة الألعاب، كان هذا التطوير بتضافر جهود شركتين عالميتين هما (تينسنت) و (بلوهول) وهذه الأخيرة أضافت اللغة العربية على اللعبة، كان وجود دعاية للعبة عبر صفحات التواصل الاجتماعى التابعة للخلايا النوعية الإخوانية أمرا مثيرا للتساؤل، غير أن تتبع واقع اللعبة يُشير إلى إنها تعتمد على القَنصْ ويُمكن أن يتم لعبها فى مجموعات تصل إلى 100 لاعب يستهدف كلُ منهم أن يكون الناجى الأخير ليفوز ففى بداية كل مباراة يقفز اللاعبون من «طائرة» بالمظلات على «جزيرة» دون أن يكون بجعبتهم أية أسلحة، وبمجرد هبوطهم، يبدأ كل لاعب البحث فى المبانى وغيرها من المواقع للعثور على «الأسلحة» والمركبات، وغيرها من المعدات التى يتم توزيعها عشوائيا فى جميع أنحاء الخريطة وبها تبدأ مهمته فى القتل.(بوبجي) ليست سوى لعبة من ضمن ألعاب كثيرة، غير إنها تفتح ساحات تدريب إلكترونية على كل ما يخص السلاح والقتل، والأكثر إدهاشاً أنها تفتح وسائل تواصل مباشرة بين مقاتلين لا يعرفون بعضهم البعض، ويُمَثِل التعاطى مع السلاح بتفاصيله حوارًا طبيعيًا فى سياق لعبة محورها القتل ورسالتها (اقتل لتضمن بقاءك وتفوز)، عبر هذه اللعبة وغيرها بالتأكيد تُثبت ماكينة المال فى العالم أنها بلا قلب، وأنها فى سبيله قادرة على فتح حاضنات إلكترونية تتجاوز أى رقابة لتمنح كلُ مُشَوَه فرصته ليتحول إلى ذئب منفرد!. إن لملمة ساحات صناعة جند الفزع فى العراق وسوريا ليس نهاية معركة الإنسانية مع الفزع، وإنما بداية لمرحلة جديدة من تطور جنده وأدواته، وما (بوبجي) إلا نموذج لما آلت إليه أوضاع صناعة الفزع، وهو النموذج الذى كان لا يمكن استيعابه إلا عبر صدمة بحجم جريمة إرهابى (نيوزيلاندا)، ولا يعنينا أبدًا خلفياته الدينية والعرقية والثقافية والجنسية، فجميعها ليست الأساس فى استخدامه قدر ما هو مهم أن نستوعب أن (الذئاب المنفردة) أو (جند الفزَع) الجدد متفقون فى عنصر واحد هو التشوه النفسى القابل للاستخدام من قبل آخر يقوم بتعبئته وتوجيهه ليتحول إلى (بوبجي) قادر على أن يتم إسقاطه فى أى ساحة ليتحصل على أسلحته ويطورها ثم يبدأ فى مهمته من أجل البقاء، وليتوج فائزاً أميرًا لمجاهدى مصر أو نيوزيلاندا، لا يهم اسم الساحة طالما فيها إنسانٌ يجب أن يُقتل.. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى