الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، قول ردده الفيلسوف الإنجليزى توماس هوبز ليصف حالة البشر البدائيين قبل تأسيس الدولة وحكم القانون. استهجن الفرنسى جان جاك روسو هذا القول ورأى أن هوبز يقدم لنا النوع الإنسانى كنوع غريب مولع بتدمير نفسه. ولكن فى الحقيقة البشر طيبون بالطبيعة وأبرياء وصادقون وتجمع بينهم عاطفة التراحم. وسخر فولتير من تصور روسو الذى يضفى حالة من المثالية على البشر الأوائل قائلا: حينما نقرأ روسو نتمنى أن نعود لكى نسير على أربع فى كنف الطبيعة. السؤال الذى يطرح نفسه بعد عرض هذه الآراء هو: هل العنف متأصل فى النفس البشرية أم أنه ميل طرأ عليها بعد التقدم فى مضمار الحضارة؟ سواء كان العنف بين البشر أصيلا أم طارئا فهو موجود اليوم فى كل مكان ملء السمع والبصر. ورغم كثرة الحديث عن الأخلاق والضمير والعدالة والتعاون بين الأمم، فإن مظاهر العنف لا تختفى ولا حتى تقل! ويرى برتراند راسل أن البشرية مارست صنوفا عجيبة من التحايل لتسمح لنوازعها فى ممارسة العنف بالانطلاق بل أيضا سمحت بتجنب تأنيب الضمير عند ممارسة العنف ضد الآخرين. وذلك بأن اخترعت أفكارا واعتقدت فى صحتها. وهذه الأفكار تنقسم إلى صنفين، صنف يسوغ العنف فى الحياة الاجتماعية، وصنف آخر يراه ضرورة فى حسم الصراعات بين الأمم. من بين الأفكار التى يرصدها راسل فى الحياة الاجتماعية فكرة ضرورة ضرب التلاميذ لتعليمهم، فالمدرس الذى يتلذذ بالعنف يبرر لنفسه الأمر بأنه يضرب التلاميذ لحرصه على مصلحتهم. وأذكر أننى خلال إحدى محاضراتى فى معهد إعداد المعلمين باللغة الفرنسية كنت أشرح لطلابى رأى ابن خلدون فى ضرر العقاب البدنى للتلاميذ، وكان الاستهجان عاما من الطلاب الذين سيصيرون معلمين ذكورا وإناثا، محتجين بأنهم مضطرون للجوء لهذه الوسيلة للسيطرة على الفصل وإلا فلن يتعلم التلاميذ شيئا. فقلت لهم إن التلاميذ فى ألمانيا يتعلمون دون أن يتعرضوا للعقاب البدنى، فصاحوا مستنكرين أتقارن تلاميذنا بالتلاميذ فى ألمانيا؟ الأطفال عندنا شياطين! هذا نموذج فى البحث عن مبررات لاستمرار ممارسة العنف، بالضبط كما ترسخ اعتقاد ساد قرونا طويلة بأن المرض النفسى يحدث لأن شيطانا قد سكن فى جسد المريض. وترتب على ذلك أن تحول أسلوب العلاج إلى ضرب المريض ضربا مبرحا وتعذيبه بهدف إجبار الشيطان على الخروج من جسده.. ومن بين هذه الأفكار أيضا فكرة تفوق الرجل على المرأة والتى تسمح للرجل بأن يقوم بتهذيب زوجته وإرشادها للطريق السليم مستخدما الضرب دون أن يكون للزوجة نفس الحق إذا سلك الزوج سلوكا منحرفا. لو بحثنا فى داخل حياتنا الاجتماعية لوجدنا الكثير من هذه الأفكار الخاطئة والتى نتمسك بها رغم مخالفتها العقل، لأنها تسمح لنا بممارسة العنف. وحتى حينما يبطل اعتقاد ما فإن نزعة العنف تدفع الإنسان إلى البحث عن اعتقاد آخر. فمثلا فى الامبراطورية الرومانية كانت الفرجة المثيرة والجذابة هى أن يجتمع أهل روما فى الاستاد لكى يروا الوحوش وهى تنهش فى أحشاء العبيد الأحياء. وحينما جاءت المسيحية وآمن بها الإمبراطور الرومانى تم إلغاء هذه الرياضة وتم تقديم الأمر على أن المسيحية أرادت أن تهذب الإنسان، وتمنع هذا التلذذ بالممارسات الوحشية، ولكن التحايل البشرى بحث عن منفذ آخر. فيقول الفيلسوف الفرنسى ميشيل فوكو صحيح إن المسيحية قضت على رياضة مصارعة العبيد مع الوحوش ولكن تم باسمها استحداث صور أخرى من العنف مثل التنكيل بالهراطقة وحرق الساحرات. وقد تحولت عمليات إلى مشهد احتفالى يجذب الجماهير التى تستمتع بالمشاركة فى التنكيل. لحسن الحظ اختفت تماما هذه الممارسات الآن مما يبين أنها لا صلة لها بالمسيحية مع أن المروجين لها كانوا يصرون على أنها من صميم الدين. وقد أدى استخدام الدين من غير وجه حق إلى استحداث صور أخرى من العنف. وهذا ما نلاحظه فى حياتنا المعاصرة بصورة يومية. فقد تكونت جماعات تعتبر أن من واجبها إجبار الناس على اتباع سلوك معين بحجة أن هذا هو الدين الصحيح الذى أوصى به الله وبهذا يمارسون العنف ضد الأفراد الآخرين وهم مرتاحو الضمير بل وينتظرون الثواب. وأخيرا تسود بين الدول الغنية فكرة أن المصلحة الاقتصادية وزيادة الدخل القومى لن يتم إلا من خلال إفقار البلاد الأخرى، وبالتالى تدمير كل منجزاتها وإعاقة محاولاتها للتنمية، وتستخدم فى ذلك أساليب رهيبة من العنف ضد سكان أبرياء. ورغم قسوة المشهد يظل هناك بريق من الأمل. فنحن نلاحظ أن كل هذه المبررات تخالف العقل ولو اتجه الأفراد والأمم إلى تحكيم العقل فى أمورهم لتخلصنا من الكثير من الأفكار التى تبرر العنف. لمزيد من مقالات د. أنور مغيث