شهد شاهد من أهلها! إنه أرشيف الوثائق البريطانية الذى يكشف المستور ويسلط ضوءاً قوياً على ما خفى من أحداث! هنا. ........................................... الإجابة عن السؤال الأزلى، الذى طالما أثار الجدل مع رصد وقائع التاريخ الكبرى، متى بدأت الثورة فعليا؟ وكانت إجابته واضحة «الثورة لم تبدأ فى السابع من مارس 1919»، بل «سبقت هذا التاريخ أحداث وتراكمات طويلة». حيث أنه فى ذلك اليوم دفعت به دفعا «مشاعر ومطامح وآمال واسعة لدى جماهير الشعب المصرى.. التى لم تستلم للاحتلال فى تاريخها الحديث أبدا، وخاضت حروبا لا هوادة فيها ضد السيطرة العثمانية، ثم ضد الاحتلال البريطانى». ولتوضيح كيف بدأت ثورة 1919 المصرية، ومراجعة وقائعها ودلالاتها بشكل متكامل. وفقا للوثائق البريطانية، فإن ثورة 1919 بدأت قبل تاريخها ب 37 عاما. واستشهدت على ذلك بما كان من تدخل القوات البريطانية لفض المواجهة ما بين الثورة العرابية بزعامة أحمد عرابى من جانب، والخديو توفيق من جانب آخر. بدأت الثورة حينها، رغم تأكيد بريطانيا المتكرر أن «احتلال مصر مؤقت»، وفقا لما ورد فى شهادة رئيس وزراء بريطانيا وقتها وليم ايوارت جلادستون أمام مجلس العموم فى يوليو 1883، موضحا «ليس لبريطانيا العظمى مطامع فى مصر ولم ترسل الجنود إليها إلا لإعادة الأمن فيها، ولكى ترجع للخديوى سلطاته التى فقدها». وعاد وأكد المعنى ذاته خلفه اللورد روبرت سالسبورى فى أكتوبر 1898 أمام مجلس العموم أيضا قائلا: «كان وادى النيل ولايزال ملكا لمصر»، أن السبب الأساسى فى التزام بريطانيا بهذا الخطاب، كان التنافس الاستعمارى بين بريطانيا وفرنسا، ولكن اتفاق 1904 بين الدولتين والذى أطلق يد باريس فى مراكش جاء ليرفع عن لندن العتب بخصوص مصر. لكن لم يكن ذلك فقط الموجه الأساسى للثورة. فقد اجتمعت، «أسباب الوحدة الفكرية والقومية» التى فجرت الثورة وتمثلت فى تسريح الجيش المصرى كإحدى الأدوات البريطانية للتأكد من تصفية الثورة العرابية. والمواجهة الصاخبة التى تمت بين رئيس وزراء مصر حينذاك محمد شريف باشا وبين السلطة البريطانية فى مصر بسبب توجيهاتها بإخلاء السودان بعد فشل الحملة البريطانية التى ساقت من أجلها الجنود المصريين إلى هناك ولقى منهم عشرات الآلاف حتفهم، فى محاولة من لندن لإخماد الثورة المهدية بقيادة محمد أحمد المهدى. وقتها رفض شريف باشا أمر الإخلاء الذى كان ضمن ممارسات بريطانية لتقسيم ممتلكات مصر بمناطق البحر الأحمر وحوض وادى النيل، وزاد على الرفض بتقديم استقالة مسببة يتصدرها إدانته الواضحة للتدخل البريطانى فى إدارة شئون مصر الداخلية. وتجدد الكشف عن مدى التدخل البريطانى لاحقا فى وقائع «وزارة الثلاثة أيام». وتتكشف تفاصيل هذه الواقعة عند اتخاذ الخديو عباس الثانى قرارا بإقالة وزارة مصطفى فهمى باشا، وتعيين حسين فخرى باشا رئيسا للوزراء، بسبب ما أخذ على وزراء فهمى باشا من التعاون مع مندوبى بريطانيا. ورأى المعتمد البريطانى، اللورد كرومر، الملقب ب «خديو مصر غير المتوج» والذى دام منصبه 23 عاما أدار خلالها صغائر وكبائر الشأن المصرى، أن الفرصة سانحة ل «تلقين الخديو درسا» وفقا لما ورد فى برقيته إلى لندن، وبناء عليه اجتمع مجلس الوزراء البريطانى وبعث لاحقا بنص البرقية التالية إلى كرومر: «أن حكومة جلالة الملكة تنتظر أن يؤخذ رأيها فى الأمور المهمة- كتعيين الوزراء- وهى لا ترى فى الوقت الحاضر داعيا ولا مصلحة فى إحداث تغيير فى الوزارة ولهذا فهى لا توافق على تعيين فخرى باشا رئيسا للحكومة». وتم إقالة فخرى باشا الذى تولى منصبه الجديد ثلاثة أيام فقط من 15 حتى 18 يناير 1893. وأصر كرومر على تحصيل تفويض رسمى من الخديو بالتعاون وقد كان بصدور تصريح رسمى عنه بأنه: «يحرص على توطيد علاقات المودة مع انجلترا وأنه سوف يستجيب عن طيب خاطر للمشورة التى يقدمها إليه ممثل حكومة جلالة الملكه فى جميع المسائل المهمة». يضاف إلى بواعث الثورة ما كان من وقائع مذبحة دنشواى بالمنوفية عام 1906 التى أسفرت عن صدور أحكام متسرعة بالإعدام والجلد والسجن بحق العشرات من المصريين فى مسألة مقتل أحد الضباط الإنجليز بفعل ما أكدته تقارير طبية بريطانية لاحقا بأنه «ضربة شمس». وتشير وثائق إلى أن «دنشواى» كانت بداية اهتمام الصحافة العالمية بالشأن المصرى، وذلك بفضل الحملة التى شنها الزعيم المصرى الشاب مصطفى كامل، وأسهمت فى استثارة وعى فئات أصحاب «الجلابيب الزرقاء» أو الفلاحين، وانتهت بمتغيرين آخرين فى غاية الأهمية. وكانا استقالة المعتمد كرومر، وبدء تولى عناصر مصرية لمناصب حكومية رفيعة مثل سعد باشا زغلول الذى تولى وزارة المعارف. كان دخول مصر الحرب العالمية الأولى إلى جانب بريطانيا «عامل تفاعل» أساسى أسهم فى تضافر كل ما سبق من بواعث تمهيدا للثورة. الحرب والمصير: تكشف الوثائق ما كان من دخول مصر الحرب العالمية الأولى كإحدى جبهات القتال الإنجليزى وقوات الحلفاء ضد ألمانيا. وكانت الحرب بداية لمعركة بريطانيا لإحلال ذاتها محل الهيمنة التركية على مصر التى كانت قد دامت 397 سنة كاملة. ووفقا لما ورد فى محفوظات وزارة الخارجية البريطانية، جاء نص هذه البرقية المرسلة من السير إدوارد جراى، وزير الخارجية البريطانى، إلى معتمد بريطانيا فى مصر ملن شيتهام بتاريخ 27 سبتمبر 1914، قبل ستة أسابيع من دخول تركيا الحرب إلى جانب ألمانيا. وكان نصها: «وضعنا صيغة بيان قصير وبسيط يعلن وضع مصر تحت حماية صاحب الجلالة، وينهى السيادة التركية. ونرى أن يصدر البيان هنا فى حالة هجوم تركيا على مصر». وقامت الخطة على خلع الخديو عباس حلمى الثانى وتولية الأمير حسين كامل. لكن مخاوف من ردة فعل سلبية من جانب المصريين انتهت إلى التراجع عن خطة الحماية واستبدال خيار إعلان الأحكام العرفية بها. لكن مصير مصر ظل رهنا بالمخططات المتضاربة التى بلغت حد إقدام بريطانيا على ضمها إلى سيادتها ونزع الجنسية المصرية عن مواطنيها (نحو 12 مليونا) ليمنحوا جنسية رعوية بريطانية. وتكشف مسودة نص القرار الملك جورج الخامس، ملك بريطانيا، والمعدة بتاريخ 16 نوفمبر 1914، بضم مصر إلى سيادة بريطانيا. وكان بعض نصه: «بحضور حضرة صاحب الجلالة المعظم، حيث إن بريطانيا العظمى ظلت طوال سنوات عديدة مضت ضمانا لسلامة الحدود تحتل مصر عسكريا.. ولحسن أداء واستقرار الحكومة المصرية. وحيث إنه أصبح من الضرورى لحكومة صاحب الجلالة، نتيجة لنشوب الحرب بين جلالته وصاحب الجلالة الامبراطورية سلطان تركيا، أن تعتبر نفسها مسئولة بصفة دائمة عن سلامة مصروحكومتها لما فيه مصلحة المصريين.. لذلك فإنه يسر جلالته أن يأمر وقد أمر بما يلى: 1) ابتداء من هذا التاريخ وبعده تضم مصر وتشكل جزء من ممتلكات جلالته..». وتم التراجع مرة ثانية والعودة إلى خيار الحماية كحل وسط خشية إثارة القلاقل داخل مصر وإثارة القوى الاستعمارية المختلفة حول العالم مثل روسيا وفرنسا. فكان إعلان الحماية نهائياً فى 18 ديسمبر 1914، وتولية الأمير حسين كامل الذى بات سلطانا، وبعدها تم الكشف عن بنود دستور الحماية. وبموجب هذا الدستور، ما كان لمصر التواصل مع أى كيان أجنبى إلا عبر المندوب السامى البريطانى، مع تأجيل النظر فى نظام المحاكم المختلطة والامتيازات الأجنبية إلى ما بعد انتهاء الحرب. لكن ما بعد انتهاء الحرب فى 11 نوفمبر 1918، تأكد سعى التاج البريطانى لدوام التبعية المصرية واستمرار مخطط «الحماية»، بحيث يصبح «ضم» مصر فعليا. تأكد ذلك من واقع مذكرة الإصلاحات الدستورية التى أعدها سير وليم برينت وتضمنت هيمنة بريطانية كاملة من حيث التعيينات وصياغة القوانين وحتى لغويا على الحياة التشريعية والنيابية المصرية. ما استدعت مواجهة حادة مع رئيس الوزراء حينها حسين رشدى باشا رئيس الوزراء، واستدعت تغلب سعد باشا زغلول على العوائق التى وضعتها القيادة الإنجليزية دون التقائه بحشد من أنصاره فى بداية تنظيم حركة السخط الشعبى ضد استمرار الحماية البريطانية لما بعد وضع الحرب أوزارها. فكان تمكن زغلول باشا من حضور محاضرة لقاض إنجليزى يروج للإصلاحات الدستورية بنادى «جماعة الاقتصاد السياسى والإحصاء والتشريع»، وطلب الكلمة، فخطب فى الحضور قائلا: «بلادنا لها استقلال الذاتى ضمنته معاهدة لندن سنة 1840 واعترفت به جميع المعاهدات الدولية الأخرى، وعبثا يحاولون الاعتماد على ما حصل من تغيير هذا النظام السياسى أثناء الحرب... إن الحماية لا تنتج إلا من عقد بين أمتين.. فى سنة 1914 أعلنت انجلترا حمايتها من تلقاء نفسها دون أن تطلبها أو تقبلها الأمة المصرية». وزاد تعقيد الأمور مع توجه بريطانيا لاستثناء مصر من مساعى الأمم للاستقلال ونيل حق تقرير المصير الذى أعلنه الرئيس الأمريكى وودرو ويلسون فى نوفمبر 1918. فتم تتبع البرقية التى بعثها السير ريجنالد ونجت المندوب السامى البريطانى إلى وزير الخارجية البريطانية أرثر بالفور، طلبا للمشورة: «القاهرة فى 8 نوفمبر 1918 بالإشارة إلى برقيتى... فإنى أظن أن من المحتمل أن يكون لسياسة تقرير المصير رد فعلها بين المواطنين المصريين الذين سيرغبون، ولا شك، فى أن تعامل مصر بنفس المعاملة» وأضاف لاحقا فى سياق البرقية ذاتها «ولكن هناك شائعات لا يمكن تجاهلها بأن المواطنين الفلاحين يريدون مندوبا أمريكيا هنا.. حتى يتسنى لأمانيهم بأن تبلغ لمستر ويلسون». وجاء توجيه بريطانيا لونجت فى سياق مذكرة كالتالى» اقترح الإجابة بأن حكومة جلالة الملك ترى أن مصر وضعت تحت الحماية البريطانية نتيجة لعمل تركيا، وأنها بذلك أصبحت جزءا من الإمبراطورية البريطانية، وبذلك ليس للرئيس ويلسون أن يتدخل فى شأنها، ويضاف إلى الإجابة برجاء السيد ريجنالد ونجت بأن يتحاشى المناقشة فى هذا الصدد على قدر الإمكان». لكن الالتفاف البريطانى لم يتمكن من حجب قضية الاستقلال المصرى طويلا، فالسلطان فؤاد كان قد راسل الرئيس ويلسون بعرضه قضية مصر، والأهم كان اللقاء التاريخى بين الوفد المصر ى المؤلف من زغلول باشا وعبد العزيز فهمى وعلى شعراوى، مدفوعين بدعم القوى الوطنية للقاء ونجت فى 13 نوفمبر 1918، والتى وردت وقائعها فى تقرير سرى ومطول بعثه ونجت إلى لندن بتاريخ 18 نوفمبر، وكان من ضمن ما فيه: «وقد جاءوا ليدعو لبرنامج بالاستقلال الذاتى لمصر لا يترك لبريطانيا العظمى إلا حق الإشراف على مسألة الدين العام والتسهيلات الخاصة بسفننا التى تعبر قناة السويس. وهم لا يلتزمون بوسائل مصطفى كامل ومحمد فريد وإن كانوا يتفقون مع مبادئهما...وبعد ذلك مباشرة قدم رشدى باشا ( فى إشارة إلى رئيس الوزراء) واقترح أن يقوم هو وعدلى باشا بزيارة لندن فى المستقبل القريب لبحث الشئون المصرية، وقال إن سلطان مصر قد وافق على هذه الخطة». واستكمل المعتمد تقريره قائلا: «وأنا على علم أن الزعماء الثلاثة زاروا سلطان مصر قبل أن يتصلوا بى، وليس هناك شك كبير فى أن لا سلطان مصر ولا الوزراء يشعرون بأنهم على درجة كافية من القوة تمكنهم من معارضة المطالب الوطنية مهما بدت غير مقبولة.. ومن المرجح أن تتخذ الحركة الجديدة شكلا أوسع، وقد سمعت أن المصريين البارزين يستعدون لعقد اجتماعات لبحث المسألة». وبعدها تسارعت وتيرة الأحداث، فجاء الرد البريطانى على المعتمد فى مصر بشأن لقاء وفد السياسيين الكبار كالتالى: «من وزارة الخارجية بتاريخ 27 نوفمبر 1918- أن جلالة الملكة ترغب فى أن تتصرف وفقا للمبدأ الذى اتبعته دائما بمنح المصريين نصيبا متزايدا فى حكومة البلاد،.. ليس هناك غاية مفيدة يمكن أن تتحقق بالسماح للزعماء الوطنيين بالحضور إلى لندن وتقديم مطالب غير معقولة لا يمكن قبولها». سعد والثورة: تعنت بريطانيا الذى اتخذ أوجه عديدة، قابله الوفد الوطنى الثلاثى بإطلاق ما تم تسميته بحرب البرقيات، حيث تمت مراسلة مندوبى الدول الأجنبية فى مصر والرئيس الأمريكى ويلسون لعرض قضية مصر وأزمتها. وفى الوقت ذاته انكرت بريطانيا على رشدى باشا أيضا السفر إلى لندن، فما كان منه إلا الاستقالة وظلت مصر بلا حكومة لشهور. وتزامن هذا كله مع ذيوع أشكال السخط الشعبى المصرى، وذيوع أشكال القمع والظلم البريطانى فى المقابل. فى هذا الوقت بعث أيرل كروزون، وزير خارجية بريطانيا إلى المعتمد البريطانى ملن شيتهام، باستجابة لطلب سابق من جانب الأخير بخصوص سعد باشا، كان هذا بعض نصها. «وزارة الخارجية 7 مارس 1919- عليكم أن تتخذوا على الفور إجراء يضع حدا للأعمال التى يقوم بها سعد زغلول واتباعه فى محاولة لمنع السلطان والوزراء من ممارسة مسئولياتهم على الوجه الصحيح... ولذلك فقد خولناك السلطة للاتفاق مع القائد العام لإلقاء القبض على سعد وإبعاده فورا إلى مالطا». قامت الثورة، وظنت بريطانيا أنها قادرة على إخضاعها، لكن ستة أيام مرت كشفت المعدن الحقيقى لهذه الحركة القومية الشاملة التى جمعت مختلف أطياف الشعبى المصرى، فكان التقرير الذى بعثه شيتهام إلى وزير الخارجية كروزون بمثابة استغاثة وجاء فيه ما يلى: «إن محاولات الإضرار بالمواصلات مستمرة، لقد تجمعت حشود كبيرة فى قليوب والوسطى.. وهذه الحقائق المشار إليها آنفا تشير إلى موقف خطير وقد قابلت القائد العام فى مصر الذى اتفق معى على أن الحاجة تقتضى وجود قوات عسكرية كبيرة لإعادة المواصلات وحمايتها. ولضمان وصول إمدادات الأغذية إلى القاهرة. وعلينا أن نواجه احتمال رفض الموظفين فى السكك الحديدية استئناف العمل». وفى سياق التقرير ذاته نصح المعتمد البريطانى إما باعتقال باقى رفاق سعد باشا أو التوصل إلى تسوية، مع توجيه النصح إلى بريطانيا « بالاستجابة لبعض المشاعر الوطنية». فى التقارير التالية تمت الإشارة إلى اتساع نطاق الحركة الوطنية، وتم طلب «17 مارس 1919- وأود أن أوضح تماما أن الحركة الحاضرة فى مصر حركة قومية بكل ما فى هذه الكلمة من معنى. ومن الواضح الآن أنها تحظى بعطف جميع الطبقات والعقائد، بما فى ذلك الأقباط، ووسائل القمع لابد أن تنجح فى الوقت الحاضر، لأن الشعب بالفعل غير مسلح، ولكن ذلك لن يتم إلا على حساب سفك الكثير من الدماء، وإيجاد شعور عميق بالمرارة». لكن ما تبقى ليس المرارة وإنما الاعتزاز بهذه الحركة التى دامت أعواما حتى حققت أهدافها ودامت ذكراها عقودا حتى أتمت المائة.