يوم 30 و31 مارس ينزل قداسة البابا فرانسيس ضيفاً على شعب وملك المغرب محمد السادس، ولست أدرى ما هى البلد العربى التالى الذى سيستقبل قداسته، وأزعم أن هذه الخطوات لم تحدث صدفة، فلا صدفة فى هذا الوجود، وبالأحرى لا صدفة فى تحركات الرؤساء والقادة، كما أن هذه الزيارات للبلدان العربية من قبل رئيس أكبر الكنائس المسيحية عدداً وانتشاراً، وهى عضو فى الأممالمتحدة ولها جامعاتها ومدارسها، فى كل أنحاء الدنيا، ولرهبانها وراهباتها نشاط ملموس قوى وتأثير ثقافى وأخلاقى فى ملايين الشباب من مختلف جنسيات العالم، ولبابا روما سفراء فى الدول الإسلامية والعربية كما له ممثلون ومفوضون فى مختلف لجان الأممالمتحدة. وتعتبر دولة الفاتيكان اصغر الدول حجماً ومساحة وسكاناً، تقع فى قلب إيطاليا وتعترف الحكومة الإيطالية باستقلالها، ويحج إلى روما عاصمة إيطالياوالفاتيكان ملايين السائحين من كل فج وصوب، مما جعل دخل السياحة فى ميزانية إيطاليا رقماً مهماً يحسب له ألف حساب، كما تعتبر الكنيسة الكاثوليكية التى تضم نحو مليار وربع مليار من سكان الدنيا أقدم مؤسسة فى تاريخ العالم، فهى منذ ألفى سنة، ورغم الأمواج الصاخبة فى داخلها والرياح العاتية من خارجها، صمدت بنظامها البابوى الذى يتناوبه باباوات من مختلف الجنسيات واللغات، بل وطرحت أسماء كرادلة من السود لتولى منصب البابا الذى يساعده أكثر من سبعين كاردينالاً هم بمثابة الوزراء والمعاونين، كما تضم الكنيسة الكاثوليكية أكثر من أربعة آلاف أسقف وبضعة ملايين من الرهبان والراهبات والقساوسة والإكليروس، وكل من ذكرت يخضعون لعقيدة واحدة ورئيس واحد ويتبعون تعاليم أخلاقية واحدة. والتساؤل الملح فى بداية هذا القرن، هل تطور فكر الغرب الأوروبى والأمريكى نحو العرب والبلدان الإسلامية، أم مازال فكر العصور الوسطى الذى يقسم العالم إلى غرب مسيحى وشرق إسلامي فكرا يحيط به التربص والحذر، وعلاقات يشوبها الشك والقلق، ومستقبل يلفه الخوف من هذه التيارات المتطرفة شرقاً وغرباً، ألا تزال الكنيسة الكاثوليكية غربية السمات، أوروبية الثقافة، لها باع فى عالم الاقتصاد والتجارة، وكيف تطورت علاقاتها بالشعوب العربية حتى جاء بابا روما يطرق أبواب عواصمها، ويرحب به ملوكها ورؤساؤها، بل لعل يوماً نسمع عن زيارة البابا للحجاز الأرض المقدسة عند المسلمين كافة وتستقبله السعودية بعد أن عشنا وشهدنا الوفود منها تتبادل الزيارة للفاتيكان. واحب دوماً الاستعانة بالتاريخ الصادق الأمين فى مثل هذه الرؤى المتفائلة والتى تنسجها الروح الإنسانية التى تربط البشر جميعاً، فى البدء عند بزوغ الدعوة الإسلامية، جاءت وفود مسيحية من نجران، مؤرخون يقولون إنهم ستمائة من كبار أحبارهم وقادتهم، ومؤرخون يقولون إنهم ثلاثمائة، وإذ برسول الإسلام يأمر عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان برعاية الوفد والعمل على راحته، ولما عرف الرسول الكريم بأنهم يريدون، إقامة صلاة عيد القيامة وليس فى المدينةالمنورة كنيسة أمر بأن تقام صلواتهم فى مسجد الرسول بالمدينة، ولك ان ترجع إلى مؤرخين مسلمين معاصرين للحدث ذكروا هذا الأمر، وعندما انتهت زيارتهم وحواراتهم التى دامت شهوراً اختلف فى عددها المؤرخون صرفهم رسول الإسلام آمنين، بعد أن قال كبيرهم سيدى الرسول قبلنا الإسلام دولة ولكن نبقى على عقيدتنا وإيماننا. وتمضى الأيام وتسقط الحضارات القديمة وتنهض حضارات جديدة وتزدحم الدنيا بالحروب الدينية، التى سفكت فيها الدماء الغزيرة حتى جثم كابوس الاستعمار واستعباد الناس ونشر البؤس والشقاء فى الأمم الضعيفة ، ويئن العالم من حربين عالميتين خلال القرن الماضى ثم تنشق الأرض عن بدع الإلحاد والتطرف، ويبدو شبح مخيف هو شبح المهاجرين من الجنوب إلى الشمال، ويقع الإنسان المعاصر فى يأس من إنسانيته مع أن حل مشكلة المهاجرين إن شاءت الدول الغنية المرتجفة بسيط فى غاية البساطة ، اذهبوا إلى البلدان الفقيرة الجائعة التى يهرب منها أبناؤها، أقيموا المدارس، والمستشفيات والجامعات أنها أمور لا تكلف واحدا من مائة من ثمن الأسلحة التى تخزن وتبلى وهى من وحى الشيطان، ومن مصدر الشر القابع فى ميراث الكيان البشرى اكسروا الحواجز ، وازرعوا الأمل. ويبقى سؤال ما علاقة ذلك كله بزيارة البابا للمغرب؟ أقول إن ذلك كله وأن يبدو بعيداً أو مستحيلاً إنما هو جوهر فكر هذا البابا القديس، أن تستيقظ الإنسانية لتدرك أن الله خلق البشر، للتعارف ، والتضامن والحرية والمساواة والعدالة، أفيقوا يا أبناء آدم فليس عند الله محاباة، وإنما يتقبل الله كل مؤمن به محب للبشر ، أنى استشرف مستقبلاً أكثر جمالاً من كل الماضي، فالبشر ماضون ليصبحوا أسرة واحدة، والمغرب الدولة الإسلامية ذات التراث العريق والذى قدم العلماء والمفكرين وأسهم فى كل حضارة مضت، له رسالة خاصة، ملكه شاب طموح يريد أن يقيم حضارة حديثة فى بلده، يريد أن يكون وطناً للسلام والأمن، إن زيارة البابا للبلاد العربية هى رسالة محبة وسلام ومعايشة ، لقد طوى البابا صفحات الماضي، وكتب السطور الأولى مع الأزهر الشريف فى حضارة ما بعد الحداثة، وهذه السطور تقول إن الإسلام والمسيحية أكبر ديانتين فى العالم وبسماح من الله سارت الديانتان معاً فلتكن مسيرتهما لخير الإنسان، كل إنسان، وأى إنسان، وأزعم أن الوثيقة التى اعلنت على الأرض العربية، مهد الأديان والأنبياء إنما تأكيد على أن هذه المنطقة من العالم لها رسالة خاصة وأن الوثيقة هى الصفحة الأولى لتاريخ الإنسانية فى فجر عصر جديد بعد تجربة الحداثة بما لها وما عليها. لمزيد من مقالات د. الأنبا يوحنا قلته