فى الوقت الذى تعتبر فيه اليابان واحدة من أكثر دول العالم اهتماما ورعاية بالطفولة صحيا وتعليميا وتعتبر تجربتها التعليمية تحديدا هدفا يسعى الجميع للاقتداء به، إلا أن ذلك لا ينفى حقيقة أن هذا الواقع تواجهه بعض العقبات والتحديات التى ألقت بظلالها عليه إلى الحد الذى دفع لجنة حقوق الطفل بالأمم المتحدة إلى دق ناقوس الخطر بعد أن أعربت اللجنة فى تقرير لها صدر مؤخرا عن مخاوفها بسبب ارتفاع مستوى العنف والانتهاكات ضد الأطفال، وطالبت السلطات اليابانية بفعل المزيد حتى ينعم الأطفال بطفولتهم بعيدا عن الضغوط المفرطة أو العنف الجسدى فى المدارس والمنازل. التقرير الذى بدا صادما ومفاجئا، خاصة أنه ظهر بعد حادثة وفاة طفلة تبلغ من العمر عشر سنوات بسبب تعرضها للعقاب الجسدى من والديها وإساءة المعاملة لدرجة الحرمان من الطعام والنوم، سلط الضوء كذلك على جانب آخر مهم يتمثل فى نقص التنسيق بين السلطات المعنية فى حادثة وفاة هذه الطفلة. الأمر الذى دعا رئيس الوزراء للتأكيد أن حكومته تضع فى أولوياتها ايجاد آليات فعالة ليتمكن الضحايا من الإبلاغ عما يتعرضون له، مؤكدا أنهم يأخذون هذه القضية على محمل الجد. وهو ما أظهر أن لدى المسئولين اليابانيين وفى مقدمتهم رئيس الوزراء الشجاعة الكافية للاعتراف بوجود تقصير فى أداء الجهات المسئولة عن حماية الاطفال، بعد أن ما اتضح لاحقا فشل مركز رعاية الأطفال والمدرسة والسلطات الأخرى فى الاستجابة الفورية للاستغاثات المتكررة من الطفلة. الأمر الذى دفع رئيس الوزراء للتعهد بأن تعمل حكومته على التأكد من سلامة جميع الأطفال المشتبه فى تعرضهم لسوء المعاملة بأقصى سرعة، ومطالبة الجميع وفى مقدمتهم وزراء حكومته ببذل قصارى جهدهم للقضاء على سوء معاملة الاطفال، حيث تحركت الحكومة سريعا وقررت أنها بصدد زيادة عدد موظفى رعاية الاطفال بنحو ألفى موظف لمواجهة هذه المشكلة خلال الفترة القادمة لرعاية الضحايا المحتملين لسوء المعاملة فى مراكز الاستشارة المخصصة للأطفال، وهى مراكز معروفة لدى المدارس الابتدائية والثانوية، بالإضافة لمجالس التعليم المحلية، حيث قدرت بعض الاحصاءات أن عدد هؤلاء الأطفال يصل الى عشرات الآلاف. هذه الأرقام المفزعة تعكس حقيقة أن اطفال اليابان وبالرغم من توافر جميع مقومات الرعاية الصحية والتعليمية بشكل يتماشى مع مكانة اليابان كثالث اكبر اقتصاد على مستوى العالم يواجهون مشاكل وضغوطا متعددة تدفعهم أحيانا إلى الإقدام على الانتحار. وبحسب أرقام رسمية فقد أنهى 250 طفلا ومراهقا فى المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية حياتهم فى العام الماضي، رغم أن العدد الإجمالى للمنتحرين يتراجع بشكل مطرد، واعتبر ذلك أعلى مستوى يسجل منذ ثلاثة عقود، وهو أمر آخر تناوله التقرير الأممى الذى حث السلطات اليابانية على النظر فى جذور وأسباب معدلات انتحار المراهقين الآخذة فى الارتفاع مطالبين السلطات بأن يتخذوا كل الاجراءات المطلوبة كى يسعد الاطفال بطفولتهم وحياتهم دون أضرار بسبب الطبيعة التنافسية للمجتمع الياباني. ومع أن فكرة الانتحار فى حد ذاتها تمثل معضلة فى المجتمع الياباني، إلا أن تزايد ظاهرة انتحار الأطفال أصبحت تسبب قلقا متزايدا داخل المجتمع. وطبقا للإحصاءات التى تعلنها وزارة التعليم اليابانية والمسح الذى تجريه فى المدارس بمختلف المراحل التعليمية، فإن الضغوط المدرسية والتنمر تأتى فى مقدمة أسباب الانتحار. وذلك على الرغم من التقارير التى تشير الى أن معظم هؤلاء الأطفال لا يتركون تفسيرا للسبب الذى دفعهم للأقدام على هذه الخطوة، أما بالنسبة للذين يتركون رسالة لذويهم، فإن السبب الأكثر ذكرا إلى جانب السببين السابقين هو القلق حول المسار الذى يتعين عليهم سلوكه بعد التخرج من المدرسة. وهى نتيجة ربما تتفق مع المسح المنفصل الذى أجراه مجلس الوزراء عام 2015 مع بدء تواتر الظاهرة، وتبين من خلاله أن حالات الانتحار تميل الى الارتفاع مع بدء العام الدراسي، حيث يقع الأطفال ضحية شعورهم بالضغوط الدراسية بشكل أكثر وضوحا. وهنا يشير الخبراء التربويون إلى سبب آخر من أسباب تفاقم المشكلة وتتعلق بطبيعة المجتمع اليابانى الذى مازال إلى الآن لا يحبذ النقاش العلنى لموضوعات تتعلق بالمرض العقلى أو النفسي، وهو ما يضع عبئا إضافيا على هؤلاء الأطفال والمراهقين الذين يعانون الإحباط أو الاكتئاب أو التوتر حيث يجدون صعوبة فى طلب المساعدة. وهو ما دفع إحدى المسئولات بمركز للاستشارات والتدخل فى الأزمات للقول إنه من المعتاد أن يتعرض الطفل للمضايقات والتنمر، أما غير المعتاد فهو أن يحصل على المساعدة من المتخصصين وعلى التفهم من العائلة. أما السبب الآخر، يشير إليه هؤلاء المتخصصون، لتفاقم هذه الظاهرة فيعود فى رأيهم الى تراجع الدعم والمساندة التى كان الأطفال يحصلون عليها فى الماضى عندما كانت أجيال متعددة من العائلة تعيش معا، حيث لم يعد الآباء والأجداد يقدمون الدعم اللازم بسبب طبيعة الحياة المتغيرة والسريعة، وهوما يترك الأطفال فى النهاية بمفردهم فى مواجهة ضغوط ضخمة تواجههم. خاصة أن المدارس من وجهة نظرهم غير مؤهلة للتعامل مع المشاكل النفسية التى يعانيها الطلاب، فالمدرسون مشغولون بأعباء العمل ولا يستطيعون الاستجابة لشكاوى الطلاب كل على حدة. والدليل على ذلك اعتراف إدارة إحدى المدارس أن التنمر كان وراء انتحار طالبة فى الثالثة عشر من عمرها، بعد أن لجأت لعدد من مدرسيها للشكوى دون جدوي. وهى حالة لا تبدو متفردة، إذ أعلنت سلطات رعاية الطفل أن الشكاوى وصلت أعلى معدلاتها العام الماض بأكثر من 80 ألف شكوى وبزيادة 22,4% عن العام الذى سبقه، وتنوعت ما بين العنف الجسدى والإساءات النفسية، و الإهمال و الاعتداءات الجنسية وهو معدل مرتفع بكل المعايير. وفى كل الأحوال فقد أثار التقرير الكثير من القلق والتساؤلات حول قضايا طالما أرقت المجتمع الياباني، خاصة أنها تتعلق بالطفولة التى تعد هاجسا آخر فى اليابان فى ظل ظاهرة تناقص أعداد المواليد التى تعانيا البلاد منذ عقود، حيث أظهرت الاحصاءات أنه للعام ال37 على التوالى تواجه اليابان تراجعا فى عدد المواليد، وهو أمر لا يشكل خطورة اجتماعية فقط ولكنه يهدد مكانتها الاقتصادية أيضا، بسبب تناقص القوة العاملة فى أمة يتهددها خطر الشيخوخة.