يتصور الكثيرون من أبناء الحضر ان القرية المصرية هى مجموعة من الفلاحين يمارسون الزراعة وليس لهم اى علاقة بالثقافة والعلوم، رغم ان هذه القرية كانت دائما على مر التاريخ مجتمعا متكاملا يهتم ابناؤه بالفنون والآداب النابعة من بيئتهم ولهم ادواتهم فى ممارسة هذه الفنون ومع اختراع الراديو والصحافة زاد اتصالهم بالعالم خارج القرية سواء فى مصر او العالم العربى وما جاوز ذلك من عوالم غربية وشرقية. وقد عشت هذا الواقع مع السنوات العشر الاخيرة من النصف الاول من القرن العشرين، فقد ولدت فى 25 مايو 1936 فى قرية تيرة، مركز طلخة، دقهلية وهى قرية فقيرة يعمل معظم سكانها فى الزراعة كعمال زراعيين او مستأجرين وقليل منهم يمتلك مساحة محدودة من الارض لا تزيد فى احسن الاحوال على 10 افدنة، بينما يمتلك معظم زمام القرية ملاك من خارجها ورثوا الارض عن آبائهم بينما يعملون فى مهن اخرى كالمحاماة والطب والادارة وغيرها. كان ابى عمدة القرية عام 1944 واثناء عودته من مدينة المنصورة جاء حاملا حزمة من الاوراق القاها فى حجرى وانا جالس على كنبة فى بهو المنزل قائلا:اقرأ يا استاذ، تصفحتها فاكتشفت من بينها مجلة باسم الصباح وصحيفة الاهرام والبلاغ وصحيفة اخرى تتكون من اوراق ملونة حمراء وصفراء وبيضاء حجمها نصف الصحف العادية عرفت فيما بعد انه يسمى التابلويد واسمها البعكوكة ومعها صحيفة اخرى من نفس الحجم اسمها الفارس انجذبت اليهما وبدأت فى تفحصهما، وانتظمت فى قراءتهما أسبوعيا واكتشفت من خلال ذلك انها مجلة هزلية تنقسم الى ثلاثة اقسام، الاول مجموعة من الشخصيات الهزلية التى تتحدث فى كل عدد عن رأيها فيما يجرى فى البلاد وتمارس انتقادا للمجتمع والشخصيات العامة، من هذه الشخصيات الدكتور ماكسوريان وام سحلول وهى امرأة سليطة اللسان والدكتور بعجر وكانت لغة البعكوكة تجمع ما بين الفصحى والعامية، اما القسم الثانى منها فكان صفحتين ينشر فيهما ازجال من القراء الذين يراسلونها، والقسم الثالث حوارات بين قراء المجلة ورئيس التحرير وهو زجال مشهور اسمه ابو بثينة وسوف يدهش الكثيرون من معارفى واصدقائى اذا عرفوا ان اهتمامى بالقراءة وبالمعرفة بدأ بمجلة البعكوكة التى كانت تتفاعل مع قرائها بطريقة ذكية وتنشر لهم إنتاجهم وآراءهم وبينهم خالى شحاتة وهو فلاح كان يكبرنى بسنوات قليلة نشر له ابو بثينة زجلا عنوانه (بقليله يرضى الفلاح) وعقب عليه قائلا: «لقد اثبت حقيقة انك فلاح ابن فلاح» فرد عليه قائلا:فلاح يا سيدى ومش عيب لما أكون فلاح. هكذا اجتذبتنى مجلة البعكوكة وكانت بدايتى للاهتمام بقضايا المجتمع من وجهة نظر هزلية وقادتنى الى البحث عن الجديد فاكتشفت روايات الجيب التى كانت تنشر روايات بوليسية وعاطفية من أشهرها روايات اللص الظريف ارسين لوبين والمفتش شارلوك هولمز ورجل الشرطة البلجيكى هركيل بوارو ومع تطور قدراتى على القراءة اكتشفت العالم البالغ الثراء فى ثقافة القرية المصرية وهو السير الشعبية وعلى رأسها السيرة الهلالية وبطلها ابوزيد الهلالى سلامة ومغامراته مع ملك الهلالية حسن سرحان والفتى دياب ابن غانم ورحلة الهلالية من الجزيرة العربية الى تونس، مرورا بمصر التى وصفتها السيرة بانها تغريبة بنى هلال وما حفلت به من مغامرات وبطولات تبهر الصبيان فى مثل سنى ومن هذه السيرة الى سيرة الظاهر بيبرس التى تحكى احداث الصراع بين الصليبيين والعرب بقيادة هذا الملك الشجاع وما حفلت به من خدع ومناورات على امتداد 2500 صفحة بين الصليبى جوان والمصرى عثمان ابن الحبلة، وهناك ايضا سيرة الملك سيف ابن ذى يزن الذى كان يعيش فى اليمن وجاء الى مصر بصحبة جيش كبير يضم عطمطم خراق الشجر الذى كان يضرب برمحه فى شجرة يحيط بها 20 رجلا فيخترقها الرمح الى الجانب الاخر وسعدون الزنجى ذا القدرة القتالية الهائلة، كما كان الملك سيف يستعين بعناصر من الجن مثل عفاشة ابن عيروض واخته عاقصة ، كانوا يخلصونه من المآزق، وقد انتهت السيرة بذهاب الملك سيف الى جبال القمر، حيث جاء معه الى مصر بكتاب النيل وحيثما كان يسير كان النيل يتبعه الى ان اخترق مصر كلها. وهناك ايضا سيرة حمزة البهلوان والاميرة ذات الهمة والف ليلة وليلة، وتضم كلها عوالم مختلفة وتزخر بالقيم التى يمجدها المجتمع وتوسع مدارك الشباب. هكذا كانت بدايتى مع المخزون الثقافى للقرية المصرية الذى اثر فى ملايين الشباب الذين غادروا القرية الى مجتمع المدينة حاملين هذا التراث. وهناك جوانب اخرى منه لم أتحدث عنها بل اكتفيت بالاشارة الى نماذج منه ولعلنى أستطيع ان أبرز جوانب اخرى فى مقالات مقبلة. لمزيد من مقالات عبدالغفار شكر