علماء الدين: الضمائر الحية تدفع الأمم للتقدم.. وغرسها فى النشء ضرورة رغم الجهود التى تبذل من قبل الأجهزة الرقابية بالدولة لمحاصرة الفساد ومنع الغش والتلاعب والإهمال، إلا أن ما شهدناه بالأمس القريب من إهمال خلف ضحايا وأودى بحياة أبرياء، أكد أن الأجهزة الرقابية وحدها لا تكفى لإصلاح المجتمع ومجابهة الفساد، وأنه لابد بجوار ذلك من الرقابة الذاتية، بإعلاء دور الضمير لدى كل فرد من أفراد المجتمع.. هذا ما أكده علماء الدين وخبراء الاجتماع، مشيرين إلى أن الرقابة البشرية مهما تبلغ فى دقتها وقوتها، فإنها نظام وضعى يمكن اختراقه والتحايل عليه، بخلاف الرقابة الذاتية لأنها منهج إلهى أصيل، ينبع ذاتيا ممن تأصل فيه، وإن غفلت عنه أعين الناس أو القانون. في البداية يوضح الدكتور نبيل السمالوطى أستاذ علم الاجتماع بجامعة الأزهر، أن هناك أنواعا متعددة من الرقابة منها، الرقابة الأبوية من الأبوين للأطفال، والرقابة التربوية من المعلمين لطلابهم، وهناك رقابة رؤساء العمل، وهى تقتصر على تطبيق قواعد العمل، سواء كانت في المؤسسات أو الشركات أو الوزارات إلى آخره، ثم بعد ذلك الرقابة المجتمعية أي رقابة المجتمع لأفراده، وزجر المنحرف منهم وتقديمه للقانون. وهناك الرقابة الأمنية أو الشرطية التي تتمثل في جهاز الشرطة، فالإنسان إذا ما فعل فعلا ينافى القانون، يتم القبض عليه ومحاكمته. ثم هناك بعد ذلك أجهزة يخصصها المجتمع للرقابة فوق هذه الأجهزة جميعا لكشف الجرائم الخفية مثل التزوير والتزييف والرشاوى مثل «الرقابة الإدارية» في مجتمعنا المصري التي تؤدى دورا بالغ الأهمية في كشف الفساد والقضاء عليه. لكن قبل ذلك كله وبعده تأتي أهمية (الرقابة الذاتية) ودورها الأهم في تحقيق الخير ودفع الشر، فرقابة الأجهزة أو الأفراد قد يسهل اختراقها أو التحايل عليها، أما الرقابة الذاتية فخلاف ذلك تماما. ولعل موقف بائعة اللبن التي رفضت ابنتها أن تغش اللبن في غيبة عيون أمير المؤمنين عمر بن الخطاب خير شاهد علي ذلك، فحينما أخبرتها أمها أن أمير المؤمنين لا يراهما، ردت الفتاة المؤمنة التي تراقب الله قائلة: إذا كان عمر لا يرانا فرب عمر يرانا. إنها الرقابة الذاتية..فالمسلم الحق هو الذي يراقب نفسه بنفسه، وإن غفلت عنه أعين الناس أو القانون. التربية علي المراقبة وأضاف السمالوطي أن الرقابة الذاتية تتحقق من خلال التربية في الصغر علي مراقبة الضمير، فإذا كانت التربية صالحة كان هذا الضمير صالحا، وكان نافعا للإنسان وأسرته ومجتمعه ومانعا من الانحراف، إما إذا كانت التربية سيئة فيصبح هناك خلل في تكوينه الضميري، وبالتالي لا يتورع فى الإقدام علي انحراف من الانحرافات، فالضمير هو أهم رقابة ذاتية للإنسان، به يحرص على فعل الصالحات والأعمال التي تتفق مع القانون والمفيدة لنفسه وأسرته ومجتمعه، وأن يتجنب كل ما يسيء الى هذه الثلاثية: النفس والأسرة والمجتمع. ويقول الدكتور أحمد كريمة أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر: إن مراقبة الإنسان تصرفاته قيمة من قيم الإسلام الكبرى، وتتحقق بما تعارفنا علي تسميته بالضمير، ووصفه القرآن ب (النفس اللوامة)، في قوله تعالي «ولا أقسم بالنفس اللوامة» والنبي صلى الله عليه وسلم حثنا علي مراقبة النفس ومحاسبتها دائما، فقال: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا».. وحينما سئل عليه الصلاة والسلام عن الإحسان قال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك». لأجل ذلك كان الأنبياء والرسل يتصفون بصفة الخشية أو المراقبة في سائر تصرفاتهم، وعلى نهجهم كان الأولياء والعلماء، وفي التاريخ الإسلامي نماذج عظيمة من الذين كانوا يراقبون الله تعالى في معاملاتهم وعما استرعاهم الله من أمانات فسيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه كان يلبس خاتما مكتوبا عليه (ما تقول لربك غدا يا عمر)، وسيدنا أبو بكر أخرج الطعام من بطنه قبل هضمه لظنه أن به شبهة، وسيدنا على ابن أبي طالب كان دائم المحاسبة لنفسه، وفضل أن يعيش على الكفاف خوفا من حساب الله سبحانه وتعالى. وأضاف د.أحمد كريمة أن الرقابة الذاتية هي الحارس الأمين على الإنسان، وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون»..لأجل ذلك كانت وستظل الرقابة الذاتية من التدابير الوقائية للوفاء بالأمانات والبعد عن المحرمات وتجنب الشبهات، وبها يكون العبد ربانيا في أخلاقياته وتصرفاته، لأن تحليه بالخوف من الله في السر قبل العلن، وفي العلن مع السر، يدفعه إلي الإخلاص في العمل، ومن ثم زيادة الإنتاج، كما يحجزه عن ارتكاب أي مخالفة تستوجب المحاسبة. وطالب كريمة الإعلام بتسليط الضوء علي النماذج الحية للذين كانوا في مراقبة ذاتية وضربوا المثل بالقدوة الصالحة الحسنة وبها عاشوا أعزاء وماتوا سعداء . من جانبه أكد الدكتور سامي العوضي الأستاذ بكلية الإعلام جامعة الأزهر، أن الرقابة الذاتية المتمثلة في يقظة الضمير هي الوعاء الحافظ لمتانة أي أمة وقوتها وصلابة بأسها ومنعتها، وتساءل: بدون الرقابة الذاتية ماذا تصنع الحكومات؟ إنها تحتاج لملايين القوات لمراقبة الناس ويصبح كل طرف معنيا بمراقبة بقية الأطراف في سائر المجتمع. ولأن الإنسان بطبعه يحب أن يكافأ على عمله ماديا أو أدبيا، فقد يضن بجهده أو يتراخى فيه، إذا لم يجد له جزاء عاجلا، أو إذا كان الجزاء هابطا أو مؤجلا، لكنه إذا أيقظ ضميره وحسن يقينه تفانى في أداء واجبه وادخر ثوابه عند ربه. فالضمير يدفع المرء إلى الوفاء بما يوكل إليه، وإن غمطه الناس وسلبوه حقا كان له، وإلى هذا المعنى الشامخ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله، كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم). وقد كان أبو بكر الصديق رجلا من هذا الطراز الفريد، فما كان ضميره ليستريح إلا بعد أن يؤدي كل ما عليه للمخلوقين والخالق على السواء، ولذلك مدحه ربه بقرآن يتلى فقال «الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى». الضمائر أبواب النصر ودلل د. سامى العوضى على أهمية الضمير والإخلاص لله قائلا: وما كان انتصار المسلمين علي الصليبيين وفتح بيت المقدس إلا بالإخلاص والتفاني ووجود جيش من ذوي الضمائر الحية، فحينما لاحظ القائد صلاح الدين الأيوبي، أثناء القتال، أن النار قد اشتد أوارها مرتين في معسكر العدو، جال ببصره في المعسكر فرأي جنديا ينحاز من صفوف المسلمين خلسة إلى صفوف العدو مغيرا، وبمجرد عودته تشتعل النار في معسكرهم، فعرف أنه هو الذي يضرم النار، فتتبع أثره حتى عرفه، فأمر به فجيء به إليه، فسأله: أيها الجندي ..ما اسمك ؟ قال الجندي: اسمي يعلمه ربي. فقال له صلاح الدين مطمئنا إياه: إني أريد مكافأتك. فقال له الجندي: لو أردت مالا ما جئت إلى هنا. فانصرف صلاح الدين وحمرة الخجل تكسو وجنتيه!. ولعل علو الهمة وإخلاص السلطان كان من وراء ذلك النصر المظفر، حيث كان يحمل مشعل الهداية لينير الطريق أمامهم، وكان يحمل الأحجار على عاتقه كأصغر جندي في أرض المعركة، وكان بمقدوره ألا يفعل هذا، ولاكتفى بإصدار المراسيم والقرارات التي تعفيه من ذلك، ففعل هذا ليكون قدوة يحتذى بها في موطن لا يدري الإنسان ما الله قاض فيه. وأضاف العوضي أن الضمير الحي الواعي اليقظ لا يصنعه نظام دولة يحمل الناس حملا على الجادة أو السلوك السوي فقط، بل يحمله غيرة على الحق وحرص على الشرف وخوف من الله، أما الضمير الميت فقد يتسبب في زوال أمة بأسرها، ولو فقد الشخص ضميره الإنساني لاستحالت الدنيا إلى دمار شامل وأنانية وفساد لم يسبق له مثيل، ولتحولت حياة الناس إلى فوضى عارمة، لا دين يردعهم، ولا أخلاق تجمعهم، ولا قيم تؤلف بينهم، حسب كل واحد منهم أن يقول نفسي نفسي..وليس عجبا حينما سئل أحد عملاء الغرب، وقد كان سببا في تفكك اتحاد الجمهوريات السوفيتية: ما الذي صنعته حتى تفكك الاتحاد السوفيتي؟ قال: أعطيت ضميري إجازة مفتوحة ووضعت الرجل غير المناسب في المكان المناسب.