من يظن أن «السترات الصفراء» هى سبب دخول العلاقات بين الشريكتين الأوروبيتين فرنساوإيطاليا، أزمتهما الأكبر منذ 1940 عندما أعلن رئيس الوزراء الإيطالى السابق بنيتو موسلينى حربه على باريس، فاتته الفصول الأولى لدراما أوروبا الأهم والتى لن تنتهى قريبا. آخر مشاهد الدراما كانت زيارة لويجى دى مايو نائب رئيس الوزراء الإيطالى وزعيم حزب «الخمس نجوم» الشعبوى المتطرف إلى باريس ولقاؤه بحركة «السترات الصفراء»، التى أذاقت الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون خسائر عديدة منذ خروجها إلى الشارع منتصف نوفمبر الماضي. وبعدها غرد دى مايو عبر تويتر بأن «رياح التغيير تخطت جبال الألب»، فى تلميح إلى أن الفوز الشعبوى الذى صعد به وبعدد من قيادات اليمين المتطرف إلى حكومة ائتلافية بروما، بدأت بشائره بباريس. لكن اللافت أن لا هذه هى أولى المصادمات بين قيادات إيطاليا الجدد وفرنسا، ولا هذا هو الحضور الأول ل «السترات» فى سياق صدامهما. فدى مايو نفسه سبق وأشاد بأصحاب «السترات» ودعاهم للثبات على موقفهم. ولم يكن وحده، فزميله النائب الاول لرئيس وزراء إيطاليا ماتيو سالفيني، وزير الداخلية وزعيم حزب «التحالف» اليمينى المتشدد، سبق وأعرب صراحة، فيما كانت شوارع فرنسا تحترق بفعل مظاهراتها، عن أمله بأن يتخلص الفرنسيون من «رئيسهم السيئ». المسألة إذن، تحالف بين التيارات السياسية الجديدة ذات الميل الشعبوى المتطرف فى معارضة النخبة التقليدية بالسياسة الأوروبية. صحيح جدا، لكن هذه ليست الإجابة كاملة. مبدئيا، هناك النزاع الأيديولوجى الراسخ وراء الجبهتين. فمن جانب، فاز ماكرون بحكم فرنسا وهو ينصب نفسه بصفته الأمل الجديد لأوروبا فى مواجهة الشعبوية، وأملها فى إصلاح مشروع الاتحاد الأوروبى عقب أزمة اليورو 2008 والبريكست 2016. ولذا عندما تشكل التحالف الإيطالى الحاكم من أحزاب «التحالف» و«الخمس نجوم»، وغيرهما، لم يخف ماكرون حزنه من انتشار «جذام» الشعبوية بأوروبا، على حد تعبيره. وزاد بعبارته الشهيرة: «إن كان الشعبويون يعتبروننى عدوا لهم، فقد أصابوا». وتصاعدت حدة الخلافات مع رفض سالفينى استقبال قوارب المهاجرين الناجين من مياه المتوسط، فحلت حمولة القوارب بإسبانيا المجاورة وسط لعنات ماكرون الذى وصف أفعال روما ب « غير المسئولة» ، و«المعيبة» فسالفينى ودى مايو اتخذا من المواقف ما يتوافق مع الأجندة التى صعدا بفضلها إلى الحكم ، والتى تقوم على التشكيك فى المؤسسة الأوروبية،. وإن كان هذا كله لا يفى بتفسير التصعيد الجنوني، ففتش إذن عن الانتخابات. أحزاب «التحالف» و«الخمس نجوم» فى حكومة ائتلافية واحدة، صحيح، لكنهما قوى انتخابية متنافسة نهاية الأمر. فنتائج الانتخابات المحلية بإقليم سردينيا كشفت عن تراجع شعبية «الخمس نجوم»، ما دفعه إلى رفع صوته بأحب القضايا إلى قلب الناخب الإيطالى استعدادا لانتخابات البرلمان الأوروبى فى مايو المقبل. وطبعا، اندفع « التحالف» وسالفينى للمزايدة، فكان سكب مزيد من الزيت على نيران المعركة مع فرنسا. ولا يمكن لأحد داخل إيطاليا مقاطعة المعركة، وإلا بدا متعاطفا مع حكومة ماكرون المعادية لمصالح إيطاليا على طول الخط. ولذا كان التزام رئيس الوزراء الإيطالى جوزيبى كونتى ومسئوليه بكثير من الصمت وقليل من الجهد لاحتواء الأزمة الدبلوماسية. كما أن أحزاب ايطاليا المتشددة تسعى وراء التحالف مع «السترات» التى دفعت بمرشحين مستقلين لخوض انتخابات مايو، وذلك لضمان تشكيل جبهة أيديولوجية داخل البرلمان فى مرحلة ما بعد الفوز المنشود. فتتكون «نخبة» سياسية جديدة تسقط القديمة ويكون لها الهيمنة على البرلمان الأوروبي، كما كان لها الصعود فى الانتخابات العامة بدول أوروبا. المعركة تبدو ملخصا لإجمالى أزمات أوروبا حاليا، ويبدو، أيضا، أنها ستزيد أزماتها. فلا حل قريب، ما دام الهدف مكسبا انتخابيا لم يتحقق بعد.