غالبا ما تنطوى الشخصية الإنسانية على جوانب سلوكية متعددة ومتناقضة، تراوح بين المثالية والمادية، الرقة والقسوة، المسالمة والعنف، وغيرها من ثنائيات، لا يحوزها أى شخص كاملة وإلا كان ملاكا، ولا يفتقر إليها شخص آخر تماما وإلا كان شيطانا، بل يراوح الجميع على مؤشر ملكيتها ما بين الواحد والمائة، فيحوز منها كل شخص ما تستبطنه طبيعته الموروثة، وما يستطيعه بجهده المبذول فى التعليم والتثقيف والتربية، حيث تنهض عوامل الضبط الاجتماعى (الأديان والقوانين والأعراف) برسم حدود العلاقة بين الفرد ومحيطه. غير أن عاملا مهما فى صوغ تلك العلاقة، وما يعتورها من حب أو كراهية، انجذاب أو نفور، إنما يتعلق بالمسافة المكانية الفاصلة التى يحتاجها هذا الإنسان للحفاظ على فرادته كشخص مستقل ومتمايز عمن سواه، وإلا أحاله الالتصاق بالآخرين إلى مجرد ذرة صغيرة فى حشد كبير، مجرد عينة محدودة من كتلة ضخمة، تُطمس فيها شخصيته وتبهت ملكاته العقلية والنفسية والروحية. تساعد هذه المسافة، حال توازنها، فى ازدهار الشخصية الإنسانية وانضباطها بميزان الحس الأخلاقى المسئول، فإذا ما زادت على الحد المعقول أصبحنا أمام ذلك الخلاء البدوي، الذى كان سائدا فى العصور القديمة، حيث الشخصية الفردية محض (طفولية) تعكس أنانية الإنسان قبل أن يكتسب ما يسمى الثقافة، ويتبلور لديه الحس الديني، والانتماء الوطني، والتمدن الحضاري، ومن ثم نجده متحررا من كل قانون أسيرا لشريعة الغاب، فارا من كل شعور بالتعاطف والشفقة، اللهم إلا تجاه عائلته الضيقة. وإذا ما انكمشت تلك المسافة بين البشر عن الحد المعقول أصبحنا أسرى لقانون الزحام، الذى يلتهم جل القوانين الوضعية، ويفتك بشتى الأعراف المرعية، ليصيب المجتمعات بآفات سلوكية ونفسية، تدفع بالشخصية الإنسانية إلى قبضة نوع معاصر من البدائية، يثير أسوأ الرغبات وأدنى النزعات، كالعنف اللفظي، والتحرش الجسدي، والبذاءة الأخلاقية، وغيرها من أمراض، صارت تصدمنا يوميا. والحقيقة أن مصر، منذ فقدت سبقها التاريخى الباكر المؤسس على الثورة الزراعية، واستحالت منذ الثورة الصناعية، على الأقل، قوة من الدرجة الثانية، لم تكن بلدا غنيا أبدا، فلا هى حاضنة كبرى للموارد الطبيعية خصوصا النفط، ولا هى صانعة أو مصدرة للتكنولوجيا الحديثة. غير أنها، فى الوقت نفسه، لم تكن بلدا متخلفا بالمعنى الدقيق، حيث اكتسبت قيما عصرية وانتمت إلى الحداثة الثقافية، واستوت لديها منذ القرن ونيف القرن طبقة وسطى حضرية دعمت حركتها نحو التمدن الذى نالت منه قسطا كبيرا بالقياس إلى كثير من البلدان العربية الأغنى منها. هذا التمدن، هو ما تكاد تفقده مصر الآن، أمام الزحف المتسارع لمظاهر التخلف إلى كل مكان، بفعل حالة التضاغط الشديدة، التى أفضت إلى انفجارات عشوائية، لم تعد قصرا على مناطق بذاتها تحمل هذا الاسم المشين رسميا، بل امتدت إلى شتى مجالات الحياة بها، حتى صار الناس يتحاورون صراخا فى الشوارع والطرقات وفى المنتديات، حتى التى كانت راقية، وهو ما أخذ ينعكس فى الفن خصوصا، تلك الدراما السخيفة التى تروج للبلطجة والفهلوة، فلم تعد تكتفى بتجسيد حياة المصريين الرثة،بل تقوم بتغذيتها. وظنى أن أخطر ظاهرة عاشتها مصر فى الألفية الجديدة ولا تزال تتفاقم حتى اليوم هى مركبة «التوك التوك» التى تجسد كل مظاهر التخلف من قبح وعشوائية وفوضى عارمة لا تليق بعاصمة عريقة كالقاهرة ولا ببلد كان متمدينا كمصر. ومن ثم لا يصح أن يقتصر السجال الدائر الآن فى البرلمان وقبل ذلك فى أروقة الحكومة على كيفية تنظيم عمل «التوك توك»، وكأنه بات قدرا حتميا لا فكاك منه، يفرض علينا التعايش مع القبح إلى الأبد، وهو فهم غير صحيح لابد من التصدى له. لقد كان دخول تلك المركبة القبيحة إلى مصر خطأ فاحشا، وقع فى لحظة عمياء من تاريخنا، بدافع ربح مادى لمصلحة جماعة ضغط، ولذا فإن الصمت عليه ليس إلا تواطؤا مع تلك الجماعة أو استسلاما لتلك اللحظة العمياء. خطورة تلك المركبة أنها ليست مجرد وسيلة نقل، بل نقطة تلاق لأنماط تفاعل وسلوك تصنع جميعها فى النهاية نمط حياة عشوائيا، ينال من أمن المجتمع وسلامته ويقلل فرص تقدمه. أعلم أننا بلد يعانى أزمات مادية كبيرة ولكن ذلك يجب ألا يدفعنا إلى التواطؤ مع الفقر على حساب التحضر لأن تجاوز التخلف يحتاج إلى زمن أطول كثيرا من الزمن الذى نحتاجه لتجاوز الفقر. كما أن التحضر يخفف كثيرا من وطأة الشعور بالفقر، فنمط الحياة الذى يسوده الهدوء والتهذيب والتسامح والرقى الفنى والثقافى أكثر إشباعا بكثير من تراكم المادة فى مكان قبيح وفوضوي. تقتضى المجابهة مع «التوك توك» اتخاذ قرار حاسم بمنع استيراده نهائيا أو تصنيعه وتجميعه فى مصر إذا كان يُّصنع أو يِّجمع هنا، أما الاكتفاء بترخيصه وتنظيم سيره فى خطوط معينة بغية الحصول على قدر من المال فليس إلا اتجارا فى القبح، وتصور أن هذا التنظيم سيحل المشكلة ليس إلا وهما كبيرا، إذ طالما ازدادت أعداد تلك المركبة داخل المساحة العمرانية نفسها فالمؤكد أنها سوف تطفح إلى أى مكان وكل مكان، وسوف يتحايل سائقوها على القانون لا محالة. ولا معنى هنا للتحجج بأن تلك المركبة مصدر رزق للبعض ولا بأنها وسيلة مواصلات للبعض الآخر ولا يمكن الاستغناء عنها، لأن هؤلاء كانوا يحصلون على أرزاقهم من مهن أخرى أكثر إفادة للمجتمع، مثلما كان أولئك ينظمون حركتهم قبل وجوده. ولعل مفهوم التنظيم المقبول حقا ليس هو تنظيم عمله بل تنظيم منعه، وذلك بتجريم تصنيعه أو استيراده فورا، وتحويل المصانع المنتجة له إلى تصنيع قطع الغيار لأى نوع من السيارات، مع السماح للمركبات التى تم ترخيصها فعلا بالعمل فى النطاق المحدد لها طوال مدة الترخيص المتبقية لها، ووقف ترخيص أى مركبات جديدة داخل المدن، وقصر الموجود منها على العمل فى القرى فقط حتى يتم استهلاكها تماما فى غضون أعوام قلائل، تنتهى بعدها تلك الظاهرة الكئيبة والمرهقة مثل صفحات أخرى قبيحة ومؤلمة فى حياة هذا البلد. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم