اتخذت اليابان خطوة وصفها البعض ب «التاريخية» خلال الأسابيع القليلة الماضية بعد تردد طويل حيث أقرت حكومة شينزو آبى قانونا جديدا مثيرا للجدل يفتح الباب أمام العمال الأجانب للدخول إلى البلاد والعمل خمس سنوات بتأشيرة لا تقل جدلا عن القانون ذاته. ففى الساعة الرابعة صباحا بتوقيت طوكيو، ودرجة الحرارة تحت الصفر بدرجتين ، وأغلب سكان العاصمة مازالوا يغطون فى النوم وأنوار معظم المنازل والمطاعم والشركات مازالت مطفأة ، لم يكن هناك سوى مكان واحد يعج بالضجيج والصياح والأنوار تسطع فى كل ركن فيه.. إنها قاعة مجلس النواب اليابانى وبها 237 من الأعضاء الذين أصابهم الاجهاد والتعب من كثرة الجدل والعراك والصياح إما تأييدا لمشروع القانون وإما رفضا له . فاليابانيون يعتبرون من اكثر شعوب العالم تجانسا وانسجاما ويعيشون منذ مئات السنين فى جزر منعزلة عن باقى شعوب القارة الآسيوية المترامية الاتساع وتاريخيا ، لديهم مايمكن أن نطلق عليه «فوبيا» الأجانب أو الخوف من الأجانب سواء بسبب العزلة الطويلة التى فرضها الحكام على البلاد واستمرت 240 عاما قبل فترة ميجى 1868 ، ثم العزلة الجغرافية التى فرضتها الظروف الطبيعية على اليابانيين ! وتواجه اليابان منذ نحو 20 عاما تحديا خطيرا تخشى معه أن يؤثر على قوتها الاقتصادية وطاقاتها الإنتاجية، هذا التحدى هو التراجع المخيف فى تعداد السكان بسبب قلة المواليد الجدد بالرغم من الحوافز التى تقدمها الحكومة لتشجيع الأزواج على زيادة الإنجاب ، وذلك فى الوقت نفسه الذى تتزايد فيه أعداد كبار السن بسبب الرعاية الصحية الجيدة وارتفاع مستويات المعيشة حتى بلغ متوسط الأعمار نحو 86 عاما. ويتوقع الخبراء انخفاض عدد اليابانيين الى 100 مليون فى 2050 وإلى 90 مليونا فى 2060 ، حتى أن الكاتب اليابانى «مورا كامى تاوهيسا» رصد أن لاول مرة تتجاوز مبيعات «حفاضات» الكبار مبيعات حفاضات الأطفال فى 2014. هذا التحدى دفع حكومة «آبي» إلى ضرورة فتح الباب قليلا أمام العمال الأجانب المهرة خاصة فى المجالات التى تعانى نقصا حادا فى العمالة وتم تحديدها ب 14 قطاعا منها البناء والتشييد والزراعة والمطاعم والتمريض ورعاية المسنين والفنادق وبناء السفن وغيرها . والواقع أن الشركات اليابانية وأصحاب الأعمال الذين يعدون الأكثر تضررا بسبب نقص العمال عجز، «الروبوتات» أو الإنسان الآلى والتكنولوجيا الحديثة عن إسعافهم، هم الذين مارسوا ضغوطا قوية على حكومة «آبي» ل «مواربة» الباب قليلا حتى يتمكنوا من استقدام عمال أجانب مهرة، واستغلوا استضافة اليابان لأوليمبياد 2020، وحاجة البلاد إلى المزيد من الإنشاءات وبالتالى العمال الأجانب، وكانت حجتهم قوية وهى أن شركاتهم تواجه منافسات عالمية شرسة، وتشير الأرقام إلى أن هناك نحو 163 فرصة عمل مقابل 100 طالب أو باحث عن عمل، ولابد أن نشير هنا إلى أن معظم اليابانيين يحصلون على مؤهلات دراسية وعلمية قوية، ويرفضون العمل فى الأعمال المتدنية. وبموجب القانون الجديد، فإن الحكومة تخطط لاستقبال نحو 345 ألف عامل أجنبى خلال السنوات الخمس المقبلة بنظام تأشيرات جديد، جزء من هؤلاء العمال يحصلون على تأشيرة عمل لمدة خمس سنوات دون أن يكون من حقهم اصطحاب أسرهم وهم العمال الأقل مهارة، وجزء آخر من العمال الأكثر مهارة والأعلى تعليما سوف يتمكنون من اصطحاب عائلاتهم بعد العام الأول. ويشكل العمال الأجانب فى اليابان حاليا نحو 2% أو 1.3 مليون معظمهم من دول أمريكا اللاتينية من ذوى الأصول اليابانية أو من الصين وكوريا الجنوبية وفيتنام ونحو نصف هؤلاء هم أزواج أجانب من مواطنين يابانيين من أصول كورية استقروا منذ عقود فى اليابان أو أجانب من أصول يابانية. وسوف يتعين على العمال الأجانب الراغبين فى العمل فى اليابان اجتياز امتحان فى اللغة اليابانية حتى يتمكنوا من التواصل مع المجتمع وفهم آليات العمل وتعليمات المدراء اليابانيين، مع العلم بأن بيئة وثقافة وقيم العمل فى اليابان مختلفة كثيرا عن مثيلاتها فى العالم.. وأكثر تعقيدا. كانت اليابان قد فتحت أبوابها قليلا فى 1990 للبرازيليين والأمريكيين الجنوبيين من أصول يابانية، غير أن تلك الموجة الأولى من المهاجرين لم تكن كافية لسد العجز فى حاجة الشركات إلى العمالة. وقد أبدت أحزاب المعارضة مخاوف كبيرة اعتراضا على قانون «آبي» أبرزها أن القانون أخفق فى تقديم إجراءات عملية لمعالجة التأثير المحتمل للعمال الأجانب على المجتمع الياباني، وما إذا كان تدفق هؤلاء سيقود إلى خفض أجور اليابانيين، ثم إن القانون لم يتعرض إلى سبل دمج هؤلاء الأجانب فى نظام الضمان الاجتماعي. كذلك أبدت المعارضة خشيتها من أن يؤدى استقبال أعداد كبيرة من العمال الأجانب إلى إحداث هزة فى المنظومة الاجتماعية للبلاد، التى يعد التجانس العرقى فيها الأعلى فى العالم. بل إن أصواتا من داخل الحزب الليبرالى الديمقراطى الذى يتزعمه رئيس الوزراء عارضت القانون، حيث يقول النائب «تومومى إينادا» إنه يخشى أن يؤدى قدوم العمال الأجانب إلى ارتفاع معدلات الجريمة وما وصفه ب «سرقة» الوظائف من العمال اليابانيين. كما يقول المحامى المتخصص فى قضايا العمال الأجانب «شويتشى إيبوسوكي» إنه من وجهة نظر إنسانية فانه من غير المقبول أن يعيش العامل الأجنبى 5 سنوات بعيدا عن أسرته حيث يمنع القانون الجديد العمال الأجانب من الفئة الأولى جلب أسرهم خلال السنوات الخمس. وعلى أى حال، وإيا كانت إيجابيات أو الانتقادات للسياسة الجديدة بشأن العمال الأجانب، فلاشك فى أنها خطوة «تاريخية» بالفعل.. ولكن السؤال المطروح، كما يقول «البروفيسور أوكابى ميدوري» الاستاذ فى كلية الحقوق جامعة صوفيا بطوكيو، هل خطوة «آبي» سوف تجعل اليابان دولة مستقبلة للمهاجرين فى المستقبل؟ أو بصيغة أخرى هل حاجة اليابان إلى العمالة الأجنبية فى ظل تراجع عدد سكانها سوف يجعلها تفتح الأبواب على مصاريعها للعمال الأجانب؟ الإجابة بالقطع لا.. لن تفعل اليابان ذلك بالنظر إلى ثقافتها الفريدة والمعقدة وتاريخها الانعزالي، ولكنها سوف تعتمد معايير صارمة فى اختيار الوافدين الجدد إلى مجتمعها وتتحرك بتأن وتوازن بين سد حاجتها من العمالة الماهرة والمحافظة على حقوق مواطنيها وحماية أمن واستقرار البلاد، وصيانة قيم مجتمعها وثقافته المتميزة.