اذا كان الانسان هو أكبر الخطائين فى الأرض.. وهو أولهم ولن يكون آخرهم.. ونحن البشر نزلنا من الجنة.. التى عرضها السماوات والأرض بخطأ ارتكبه أبونا آدم وأمنا حواء معا.. عندما أكلا من الشجرة التى حرمها الله على البشر.. تصوروا نزلنا من الجنة الى النار.. مباشرة بوسوسة من الشيطان الرجيم.. يعنى اذا كان الشر وراءنا فى الجنة.. فهو أى الشيطان واضع كتاب الشر ومؤلفه قد أخذ راحته على الآخر على الأرض.. يعنى الشر وراءنا أينما كنا.. فى الجنة.. وعلى الأرض التى نعيش عليها الآن.. ولا مفر منه ولا مهرب..
واذا كان البشر هم أول الخطائين فى الجنة .. ثم على الأرض التى نعيش عليها الآن فإن الدهر نفسه خطَّاء بفتح الخاء وتشديد الطاء. « وشوف بقى يحصل إيه لما الدهر نفسه يخطىء»! والعبارة هذه قالها لى يوما كاتبنا الكبير توفيق الحكيم.. وأنا جالس أمامه فى شبابى الصحفى فى مكتبه فى الدور السادس فى مبنى الأهرام الذى خصصه عمنا ومعلمنا الأستاذ هيكل لأدباء مصر وكتابها العظام فى الزمن الجميل الذى ولى وراح.. عندما خصموا من كشف راتبه..عندما كان مجرد وكيل نيابة فى الأرياف فى شبابه.. عشرة جنيهات بحالها.. ولم يذكر هذه الحكاية فى كتابه «يوميات نائب فى الأرياف». وعندما سألته: والدهر ماله ومال راتبك هنا ياكبير أدباء مصر أجمعين؟ قال يومها ضاحكا: وحيعمل إيه الدهر أكثر من خصم عشرة جنيهات.. يعنى ورقة بعشرة جنيه حتة واحدة.. والماهية ما فيهاش إلا ورقتين بس! وضحكنا معا.. هو الأستاذ والمعلم.. وأنا التلميذ الذى مازال فى سنة أولى أهرام.. وقلت له مداعبا: خليها غرامة بغرامة واؤمر لنا بفنجانين شاى على الماشى؟ قال مازحا: وكمان عاوز تجرح الورقة أم عشرة جنيه اللى فاضلة؟ *** ومن الحكايات والمفارقات الصحفية التى لا تحدث إلا فى العمر مرة.. عندما طلب منا الأستاذ هيكل فى اجتماع مجلس التحرير فى المبنى القديم للأهرام.. فى شارع مظلوم فى باب اللوق أن نهتم بالناس شوية.. يعنى ننزل من برجنا العالي.. ونعيش هموم الناس.. ده اللى ناقص الأهرام اللى لسه لابس بدلة السهرة والبابيون ! ونزلت الى الشارع ونزل معى يومها محمد يوسف كبير مصورى الأهرام حته واحدة الذى قال له الأستاذ: انزل يامحمد مع عزت! ولم أكن يومها أعرف إلى أين تقودنى قدماى؟ ولكن الأستاذ محمد يوسف اسعفنى بالجواب قائلا: عاوز تشوف هموم مصر كلها... تعالى نروح على محطة مصر.. فى باب الحديد والناس اللى نازلين «طازة» يعنى أول مرة من القطارات وجايين من آخر الدنيا لسه بخيرهم.. وشايلين فوق أكتافهم هموم الدنيا بحالها! وذهبنا إلى محطة مصر..ووجدنا أمامنا فى بهو المحطة أول فوج من الناس الخارجين وأشار لى الأستاذ على رجل عجوز يحمل سبتا فى يديه ويلبس «زعبوطا» فوق رأسه.. وقال لى: «بقولك إيه ياعزت.. أنا صورت الراجل التحفة ده كام صورة كده من بعيد لبعيد.. ياللا أنت خش عليه ياللا ورينا شطارتك الصحفية بقه»؟ محطة «باب الحديد» التى تستقبل كل يوم أكثر من مليون مسافر قادم إلى القاهرة من كل أنحاء مصر .. من بينهم عم «بخاتى» *** اقتربت من الرجل وقلت له: أهلا ياعم الحاج نورت مصر! قال لى : وانت تعرفنى منين.. هو أنت من كفر شلشلمون ؟ قلت له متسلحا بسلاح السرح الصحفى المسموح به: وهو فيه حد ما يعرفش شلشلمون.. دى بلدنا وبلد أجدادنا كمان! سألنى: ونحن نسير جنبا إلى جنب: وأنت من جماعة مين فى شلشلمون؟ قلت له: هقولك.. لكن بعد ما نقعد ونتكلم مع بعض.. انت رايح على فين؟ فجأة ودون سابق انذار نزلت دموع غزيرة من عينيه وهو يجلس على أول مقعد امامه فى قهوة «الساعة» خارج المحطة: «يابنى انا عاوز استريح الأول شوية.. وما دمت من عندنا من الكَفْر بفتح الكاف وسكون الفاء ححكيلك». طلب هو شايا بالنعناع.. وطلبت أنا قهوتى المظبوطة.. بينما رفض عمنا محمد يوسف أن يشرب شيئا لأنه لم يتعود على مشروبات الشارع على حد قوله يومها! وراح عمنا يحكى لنا حكايته وقال: إن أولاده «كرشوه» من البيت والغيط! اسأل: يعنى إيه ياعم...؟ قال مقاطعا: بخاتى أنا اسمى بخاتى وأبويا عوض الله وجدى جاب اليسر. هو يسألنى بمكر الفلاحين إياه: وإنت بالصلاة على النبى من عيلة مين كده فى الكفر.. إياك تكون من ولد أبو دحروج؟ قلت له مازحا: وعرفت إزاى؟ قام من مكانه واحتضنى وقال: «ياميت ألف مرحبا.. والله اتجمعوا الأحباب»! سألته: على فين يابا الحاج؟ قال آسفا حزينا: أصل أنا موش عاوز أرجع الكفر تاني..أنا حا انزل بعد كده فى لوكاندة «نوم العوافى» لصاحبها عبدالشافى قدام مقام الحسين.. الفاتحة لابن بنت النبى.. *** سلمنا وأخذنا بعضنا بالقبلات.. وكأننا نعرف بعض من ابد الآبدين وركب هو يومها ترام تلاتين الشهير حتى العتبة الذى لم يعد له وجود الآن وعدنا أنا وعمنا محمد يوسف إلى «الأهرام» مشيا على الأقدام. وكتبت يومها تحقيقا وصاغ له المبدع صلاح هلال عنوانا يقول: بعد أن أكلوه لحما.. رموه عظما.. مع صور عمنا محمد يوسف الرائعة.. يادوب مرت ثلاثة أيام واذا بكومندان صالة التحرير الذى اسمه «عم بشير» يقتحم حجرة التحقيقات صارخا: الحق ياعم عزت مظاهرة تهتف باسمك من البلد قدام الجورنال؟ وأخذتها عدوا حتى بوابة الأهرام فى شارع مظلوم لأجد من غير مبالغة أهل البلد وقد جاءوا عن بكرة أبيهم والكل يسألنى: وديت عم بخاتى فين.. احنا قرينا الجورنال الكلام والتصاوير وشفنا أبونا الحاج.. ده طفشان منا بقاله ثلاث سنين؟ قلت لهم: هتلاقوه فى لوكاندة نوم العوافى فى الحسين. قالوا: وصلنا لحد هناك؟! احنا مش هنمشى إلا وانت معانا. ركبنا فى تاكسيات وذهبنا مع ابن الراجل وابنته الكبرى الى لوكاندة نوم العوافى.. وكأننا فى مشهد بفيلم سينمائى من أيام الزمن الجميل.. اقتحمنا باب اللوكاندة.. وسألنا الكاتب الجالس وراء الزجاج: فين عم بخاتى؟ قال: ده راح يصلى العصر فى سيدنا الحسين.. وتحركنا من أمام باب لوكاندة «نوم العوافى» وذهبنا كلنا.. أولاده وبناته.. والبلدة كلها فيما يبدو الى جامع الحسين وبمجرد أن وقع نظره على أ هله وعشيرته وأولاده وبناته.. سقط هو فى أحضانهم باكيا.. وصور ياعم محمد يوسف واكتب تانى ياعم عزت.. وكانت حكاية ورواية ولا فى الحواديت.. ومكافأة خمسين جنيها حتة واحدة من الأستاذ هيكل.. تساوى الآن دون مبالغة خمسين ضعفا..وخمسين ألف سلام على لقاء الأحبة.. بعد فرقة طالت! ............... ............... لكن المفارقة العجيبة التى فاقت ذلك كله.. هى ما حدث فى إحدى الليالى.. ندما كنت «سهرانا» فى مبنى «الأهرام» القديم فى شارع مظلوم... وكانت الطبعة الأولى من «الأهرام» تصدر فى نحو الحادية عشرة مساء.. وبينما كنت أهم بمغادرة مبنى الأهرام لألحق بآخر قطار من محطة مصر إلى بيت العائلة فى القناطر الخيرية كما أفعل أيامها كل ليلة.. فاجأنى أحدهم وهو يمسك بدراعى ويقول: أبويا تعيش انت! قلت: البقية فى حياتك... قال: بس عاوزين ننزل النعى فى «الأهرام».. علشان أهل البلد فى المنيا وقرايبنا فى بر مصر كله يحضروا الجنازة والعزاء.. قلت له: بس دلوقتى الساعة حداشر والمطبعة يادوب هاتدور! ولكى أريحه وأريح نفسى.. قلت له: «هاسأل الأستاذ نجيب كنعان مدير التحرير لو وافق حينزل النعى الليلة دى.. ولو ماوافقشى يبقى نستنى الطبعة التانية»؟ يسألنى: إمتى الطبعة التانية تطلع؟ قلت له: الساعة أربعة الصبح؟ قال: يبقى ما ينفعشى.. روح يمكن عمنا نجيب كنعان مدير التحرير ده يوافق.. تحدثت إلى الأستاذ كنعان فى مكتبه والذى قال لى من تحت نظارته الطبية: بس يا أخ عزت دى المطبعة هتدور دلوقتى على طول.. احنا كده بنعطل الجورنال! قلت له: معلش دى حالة وفاة وربنا ما يوقعك فى «ضيقة»! نفس عبارة الرجل صاحب إعلان الوفاة! بعد تفكير لمدة دقيقة.. أمسك الأستاذ كنعان بقلمه وكتب بخط يده فى نهاية إعلان النعى عبارة: «ينشر إن وجد له مكان».. ليظهر «الأهرام» فى الصباح والنعى فى آخر الصفحة كالآتى: توفى إلى رحمة الله فلان الفلانى وفى آخر سطر: أدخله الله فسيح جناته.. إن وجد له مكان! وكانت حكاية ورواية!
----------------------------------------------------- عندما طلب منا الأستاذ هيكل أن ننزل إلى الناس وان ده اللى ناقص الأهرام اللى لابس ملابس السهرة و«البابيون»!