منذ صدمة الحداثة والتحديث، والهيمنة الكولونيالية الفرنسية والبريطانية والايطالية على الجغرافيا السياسية العربية، لا تزال مشروعات تأسيس الدولة القومية غير مكتملة فى الأغلبية العظمى من البلدان العربية بعد الاستقلال باستثناء المثال المصرى التاريخي، ودولة المخزن بالمغرب، وذلك لسبق التحديث السلطوى والحداثة المبتسرة فى التكوين التاريخى لهياكل الدولة، والنخب السياسية، والتزاوج التاريخى بين عمليات التحديث، والاندماج فى بنية الاقتصاد الرأسمالى الدولي، والنظام التعليمى المدني، وحركة البعثات التعليمية إلى فرنسا، وتبلور أجهزة وجماعة بيروقراطية، ومؤسسة عسكرية حديثة على النظام الغربي. الدولة الحديثة، وهندستها القانونية الوضعية الغربية، أدت إلى نقلة كيفية فى النظام الاجتماعي، والهياكل القانونية المنظمة للسلوك الاجتماعى للمصريين، وذلك من خلال الانتقال من نظام المكانة إلى نظام العقد، وهو ما أسهم فى إحداث تغيير نسبى فى أنساق العلاقات القانونية والاجتماعية، خاصة فى ظل فك الدائرة السنية فى عصر إسماعيل باشا، وبروز أشكال الملكية الفردية، وبدايات التمرينات السياسية النيابية الحديثة مع مجلس شورى النواب 1866 وفى عهد محمد شريف باشا 1879 تم إقرار مبدأ المسئولية الوزارية أمام المجلس وإنشاء النظام القضائى الحديث، والمحاكم الأهلية، والمحاكم المختلطة. هذا التطور المؤسسى والتحديثى للدولة وهياكلها، مع التعليم وبروز النخبة الحديثة من بناة الدولة المثقفين والمؤسسة العسكرية والبيروقراطية ورجال القانون- أدى إلى تبلور وعى نخبوى سياسى يربط بين التحديث والحداثة السياسية والقانونية والتعليم، وبناء المؤسسات والتقاليد السياسية، والمسألة الدستورية، وبين ضرورة التحرر من الاستعمار الغربى البريطاني. من هنا شكلت هذه الروافد التحديثية والحداثية فى بناء الدولة ومؤسساتها وتقاليدها ووعى النخبة المصرية، أحد أبرز محركات الحركة القومية المصرية المعادية للاستعمار البريطاني، التى شكلت ثورتى عرابي، و1919 علامات أساسية فى تطور وتبلور الوعى القومى المصري، حول الأمة المصرية الواحدة الموحدة والدولة الحديثة الديمقراطية. هذا النمط من الوحدة الوطنية التاريخي، لا يزال يشكل المرجع التاريخى فى بناء الأنسجة السياسية والاجتماعية والثقافية للاندماج القومى فى هذه المنطقة من العالم، التى لا تزال مجتمعاتها ودول ما بعد الاستقلال لم تحقق الشروط الاجتماعية والتاريخية والثقافية والسياسية لتشكيل الأمة داخلها، ومن ثم ظلت خاضعة لسياسة الغلبة والاستحواذ من نخب ما بعد الاستقلال ذات الأساس القبلى والعشائرى والدينى والمذهبى والمناطقى والعائلي، والتى حاولت من خلال سطوة أجهزة الدولة القمعية، والإيديولوجية، وهراوة الجندي، وبيانات المذياع والتلفاز والفضائيات، فرض سلطاتها جبرًا على جميع مكوناتها الأولية، والتمييز بينهم على أسس ومعايير أولية طائفية ودينية ومذهبية وقبلية وعشائرية ومناطقية، فى المواقع القيادية فى تركيبة السلطة، وفى سياسات الإنماء وذلك دونما عدالة فى توزيع المشروعات التنموية على المناطق المختلفة داخل البلاد، وفى التحيز لبعضها دون البعض الآخر. على سبيل المثال التركيز على مناطق الوسط النيلى فى السودان ذات التكوين القبلى العربي، وتهميش جنوب السودان قبل الانفصال وغربه وشرقه. وفى تونس التركيز على مناطق الساحل فى عهد بورقيبة وما بعد وإهمال الوسط والجنوب. فى العراق ثم إهمال مناطق التركز الديموغرافى المذهبى الشيعي. فى لبنان تركز الاهتمام ببعض المناطق دون الجنوب فى عهد فؤاد شهاب وما بعد. الإقصاء السياسى والعرقى والدينى والمذهبى والمناطقى من سياسات التنمية، وهياكل السلطة، فى ظل دول تسلطية.. إلخ أدى إلى المساهمة فى إضعاف إستراتيجيات بوتقة الصهر التى اتبعتها هذه الأنظمة لبناء التكامل الوطنى فى غالبية البلدان العربية التى لم تتكون داخلها حركات قومية ودولة حديثة ومن ثم لم تتشكل الأمة بالمعنى الحديث فى هذه البلدان. وكشفت انفجارات وانتفاضات الربيع العربى المجازى عن تشظى المكونات الأساسية لغالبية المجتمعات العربية على أسس عرقية وقبلية وعشائرية ودينية ومذهبية ومناطقيه على نحو ما يبدو فى الخرائط السياسية اللبنانية الراهنة، وهشاشة التكوينات الداخلية فى عديد من دول المنطقة، والأخطر تأثير ونفوذ دول الجوار الأقليمى العربى إيران وتركيا وإسرائيل فى سياسات عديدة من الدول العربية على نحو أدى إلى ما يطلق عليه بعضهم انهيار النظام الاقليمى العربي، أو نهاية العالم العربى الذى أصبح رهينة نفوذ وأدوار دولية وإقليمية من خارجه. ويرى بعض القائلين بنهاية النظام العربى أن تهتك الأنسجة الوطنية الداخلية، وعودة التسلطية، والتحالفات بين بعض النخب العربية، والأنفجارات المذهبية، والانقسامات الداخلية، تجعل العالم العربى محضُ مجاز سياسي، أو شعار سياسى بلا مضمون حقيقي، فى ظل مشاريع جديدة للمنطقة وتحالفات تؤسس لخرائط سياسية متوسطية الأطراف الفاعلة فى سياساتها ستكون لبعض دول الجوار الجغرافى العربى ومصالحها، ومن ثم سيكون العرب ضحية المرحلة المقبلة لتحولات الشرق الأوسط. لمزيد من مقالات ◀ نبيل عبد الفتاح