تواجه الولاياتالمتحدةالأمريكية هذه الأيام ورطة مركبة الأبعاد جاءت كرد فعل لقرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب سحب القوات الأمريكية من شمال سوريا. المعنى الذى فرض نفسه كرد فعل لهذا القرار أكبر وأعمق كثيراً من سحب هذه القوات المحدودة العدد، فقد امتد ليشمل جوهر ومضمون السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط وبالتحديد مع من تتحالف معهم واشنطن، وأى مصالح تخدمها هذه التحالفات، ولأن واشنطن تتحالف فى المنطقة وبتحديد أكثر فى سوريا مع أطراف كثيرة متناقضة المصالح فإن صراعات المصالح بين هذه الأطراف هى التى فرضت نفسها واستطاعت تعرية زيف كثير من الوعود الأمريكية لهؤلاء الحلفاء. هناك حلفاء تاريخيون وإستراتيجيون للولايات المتحدة فى الشرق الأوسط وتعتبر إسرائيل أكبر من كونها مجرد حليف، هى وكما عبر أكثر من مفكر وإستراتيجى أمريكى «مصلحة أمريكية» أو «ولاية أمريكية شرق أوسطية»، وتأتى بعد إسرائيل الدول العربية الصديقة والحليفة تاريخياً للولايات المتحدة، فعلى مدى عقود طويلة مضت كانت هناك دول عربية حليفة للولايات المتحدة، وكان التحالف ومازال تقريباً. تأتى تركيا هى الأخرى كحليف وشريك لواشنطن فى حلف شمال الأطلسي، لكن الدور التركى شهد تراجعاً فى مركزيته ضمن إستراتيجية الدفاع الأمريكية بعد سقوط حلف وارسو وتفكك الاتحاد السوفيتي، حيث كانت تركيا تعمل كحائط صد يعزل أوروبا خلفها بعيداً عن الاتحاد السوفيتى والكتلة السوفيتية فى أوروبا الشرقية. رغم ذلك ظلت تركيا تعمل كحليف للولايات المتحدة سواء من خلال الشراكة مع إسرائيل، أو القيام هى الأخرى بعمليات تخدم المصالح الأمريكية فى المنطقة. وإلى جانب هؤلاء الحلفاء جاءت الأزمة السورية أو لنقل بصراحة «الحرب على سوريا» لتفرض حليفين جديدين لواشنطن؛ الأول هم المعارضة الكردية السورية وبالتحديد ما سمى «قوات سوريا الديمقراطية» وجناحها العسكرى المسمى «وحدات حماية الشعب» الذين تعتبرهم تركيا تنظيماً إرهابياً، أما الحليف الثانى فهو فصائل المعارضة السورية الإرهابية منها وغير الإرهابية. هؤلاء الأخيران تم تجاهلهما تماماً من حسابات واشنطن، لكن معضلة واشنطن كانت كيف تدير صراع المصالح بين إسرائيل والعرب وتركيا ووحدات الشعب الكردية، أى حلفاءها الأساسيين، ومن هنا جاءت جولة كل من جون بولتون مستشار الأمن القومى الأمريكى التى شملت إسرائيل وتركيا، ومايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكى لكل من مصر والأردن ودول مجلس التعاون الخليجى الست. جون بولتون كان معنياً بتسوية تداعيات الانسحاب الأمريكى من سوريا على كل من إسرائيل وتركيا والحلفاء الأكراد. كانت مشكلة واشنطن مع إسرائيل، كما كشفت عنها محادثات بولتون فى القدسالمحتلة هى كيف يمكنها الوفاء بمطالب الأمن الإسرائيلية فى سوريا فى ظل الانسحاب الأمريكي، أما مشكلة واشنطن مع تركيا فكانت كيف يمكن تحقيق الانتشار العسكرى التركى فى شمال سوريا دون تهديد وحدات حماية الشعب الكردية. واشنطن بعثت بولتون إلى تركيا ليحقق الأمن للحلفاء الأكراد. لذلك صرح خلال زيارته لإسرائيل أنه «سيؤكد خلال اجتماعه مع الرئيس التركى فى أنقرة على حماية الأكراد حلفاء واشنطن فى سوريا» وقال «يجب على الأتراك التنسيق التام مع واشنطن فى أى عملية يقومون بها فى سوريا»، الأمر الذى أثار غضب أنقرة وكان السبب المباشر لرفض الرئيس التركى لقاء جون بولتون، وقال المتحدث باسم الرئاسة التركية إن «الاتهامات الأمريكية بشأن استهداف أنقرة للأكراد فى سوريا وضرورة ضمان حمايتهم قبل الانسحاب الأمريكى «أمر لا يتقبله عقل»، كما اعترض المتحدث باسم الخارجية التركية التصريحات التى وردت على لسان وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو عن «الحلفاء الأكراد» مؤكداً رفض تركيا لوصف وحدات حماية الشعب الكردية ب «الحليف» واعتبر تصريحات بومبيو بهذا الخصوص «مزعجة» و«مرفوضة من حيث الشكل والمضمون». فشل جون بولتون فى مهمته بخصوص حل التناقض بين مصالح الحليف التركى والحليف الكردى لكنه لم يفشل فى تأمين مصالح إسرائيل، حتى وإن كان لم يستطع إكمال مهمته فى تركيا بلقاء الرئيس التركى للتباحث معه فى موضوع «مكافحة الأنشطة الإيرانية فى المنطقة» التى وصفها بولتون ب «الخبيثة». فقد كشف الإسرائيليون أن نيتانياهو تباحث مع بولتون فى إمكانية أن تبقى القوات الأمريكية فى الجنوب السوري، وألا تنسحب من هناك لضرورات أمنية إسرائيلية. ومن ناحية أخرى كشف نتيانياهو عن أهم مطالبه فى سوريا فأكد ضرورة خروج إيران من سوريا، لكن الأهم أنه طالب بأن تعترف الولاياتالمتحدة بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان السورية المحتلة. واضح أن الإسرائيليين حريصون هم أيضاً على التمدد الجغرافى فى الأراضى السورية مثلهم مثل تركيا التى تريد أن تحتل الشمال السورى وفق أطماع معلنة ولم تعد خافية كما هى أطماعها فى الشمال العراقي، وكما أن إيران تريد أن تمد طريقاً برياً من أراضيها يصل إلى سوريا ولبنان عبر الأراضى العراقية للوصول البرى الإيرانى إلى شاطئ المتوسط. لذلك طالبوا واشنطن بأن تعترف رسمياً بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان السورية التى احتلتها فى يونيو 1967 وأعلنت ضمها رسمياً بقانون أصدره الكنيست فى 14/12/1981. بولتون لم يقدم رداً رسمياً على هذا الطلب الإسرائيلى لكن السؤال فرض نفسه بقوة على جولة وزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو الذى يريد أن يؤسس لتحالف عربى تقوده أمريكا وتشارك فيه إسرائيل لمواجهة إيران. الهدف الأمريكى من هذا الحلف مزدوج فهو من ناحية يهدف إلى حماية إسرائيل، ومن ناحية أخرى يرمى إلى تعزيز مكانة الرئيس ترامب داخلياً. واشنطن تريد فرض أولوياتها وأولويات إسرائيل على العرب بجعل الصراع ضد إيران مصلحة عربية، فى الوقت الذى يتجه العرب الآن، أو هم أميل الآن للتوجه نحو سوريا لمواجهة النفوذ التركى وليس التورط فى مواجهة مع إيران، من هنا جاء صدام مصالح واشنطن مع كل الحلفاء ربما باستثناء إسرائيل وهذه هى حقيقة السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط. لمزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس