كانت البرامج الثقافية بالإذاعة المصرية، وسوف تظل، تحدث تأثيرا إيجابيا كبيرا لدى جمهور المستمعين، وأيضا الإسهام فى الحركة الثقافية بصفة عامه والأدبية بصفة خاصة. ومن تلك البرامج برنامج (مع الأدباء الشبان) الذى كانت تقدمه الإعلامية هدى العجيمى على أثير البرنامج العام من عام 1972 وحتى 2012، كمنبر إذاعى لشباب المبدعين الذين كانوا يبحثون عن فسحة من الضوء تتيح لمواهبهم أن تظهر، إلى جانب حوارات أدبية مع كبار الأدباء والنقاد مهدت الطريق لكثير من المبدعين الشبان. ومن هؤلاء العمالقة كان أديبنا الكبير «يحيى حقى» الذى تعوّد على أن يمد يده إلى الأجيال الجديدة دون ضيق أو ضجر، وكتب لكثير منهم مقدمات تفيض بالحنان والفهم وقدرة الأستاذ المحب على التوجيه والتنوير. وقد طلبت الأستاذة هدى من الأديب الراحل التحدث مباشرة إلى الأدباء عبر برنامجها فرحب ترحيبا كبيرا بتلك الفكرة.. وكان هذا الحوار: أستاذ يحيى حقى.. لقد لاحظت اهتماما كبيرا من حضرتك بالمبدعين الشبان، وطالما طلبت منى أن أقوم برعاية أحدهم رعاية خاصة بين الحين والآخر، وإتاحة الفرصة لنشر أعمالهم، والتعقيب عليها من قبل النقاد.. ولكننى لاحظت أيضا أنك وكثير من النقاد تبادرون بأول نصيحة لهم، وهى.. اقرأ.. ثم اقرأ. وهكذا أنا أتساءل الآن معهم (والسؤال لحضرتك): أى نوع من القراءة تنصح به.. وكيف يقرا الأديب الناشىء؟ يجيب الأستاذ يحيى حقى: ليس هذا بالضبط هو ما يطلبه الناقد.. إنما فى الحقيقة أن المطلوب هو شيء آخر. يجب أن تكون القراءة «قراءة حرفة»، أى «صنعة».. كيف تُصنع القصة؟ وهنا يجب أن تقرا القصة مرة أو مرتين لكى تعرف مضمونها أولا، وثانيا لكى تعرف كيف كتبها الكاتب، ويجب أن يلاحظ الكاتب المبتدىء الأشياء الآتية: كيف بدأ الكاتب قصته؟ وماهى الكلمة الأولى؟ لأن اختيار الكلمة الأولى فى القصة القصيرة مهم جدا. مثلا: هل هى اسم؟ هل هى فعل؟ هل هى حركة؟ هل هى منظر؟ وبالمناسبة فإن الكاتب «سومرست موم» نصح الأدباء المبتدئين بأن يبدأوا القصة القصيرة بفعل يدل على الحركة لكى يعطى نوعا من التحرك وليس مجرد وصف، مثل: (وخرجت الطيور فى المساء من عشها). ونحن نستعمل أساليب مختلفة فى عرض القصة، مثل الحوار /الوصف /المونولوج الداخلى.. فيجب أن نلاحظ كيف انتقل من طريقة إلى طريقة. سؤال: إذن القراءة المطلوبة ليست سهلة بل هى شىء مركب وجاد وتتم عبر مراحل.. فما هى هذه المراحل؟ حقى: هما مرحلتان.. الأولى أن يقرأ القصة ليلم بها، والمرحلة الثانية للحرفة، لأن كل فن وله صنعة.. فالموهبة موجودة لكن عندما بتواجد القماش فكيف تقوم الموهبة بتفصيله؟. الفن له قواعد ومواصفات.. فهل هذا ينطبق على فن القصة القصيرة فى رأيك؟ حقى: كل شىء فى حياة الإنسان لابد أن نحدده وندخله فى إطار من القواعد والمواصفات.. هذه ضرورة حقيقية لكن ليست قيدا.. لكننى أقع فى حرج أمام الأديب الناشىء.. والحرج هو أننى أقول لهم: حتى لو عرفتم القواعد فإن بينكم وببن الفن مسافة.. والمطلوب من الكاتب الناشىء أن يبنى نفسه أولا كفنان قبل أن يبنى نفسه ككاتب. هنا يأتى سؤال عن رأى حضرتك فيما أصبحت عليه بعض الإبداعات القصصية من غموض وانحراف إلى الرمز؟ حقى: نلاحظ - ليس فقط فى القصة القصيرة الحديثة بل فى الشعر الحديث أيضا - نوعا من الإبداع يشوبه الغموض، فيقول المؤلف: إننى اكتب ما أشعر به، وأنا لست مسئولا عن القاريء يفهم أو لا يفهم، والكاتب طبعا حر فيما يكتب لكنه لا يتكلم من فراغ بل المفروض فيه الاتصال والوصل بينه وبين المتلقى. وماذا عن الاستعانة بالتراث والغرائب؟ حقى: نلاحظ فى شعر «إيليوت» مثلا أننا نجد فيه إشارات عديدة للتراث (سواء تراث الحضارة، أو تراث اللغة، أو التراث الأدبى) مدسوسة داخل القصيدة لكن يشترط فيها أن معناها الظاهرى يجب أن يكون مفهوما من القارىء. أى أن المهم أن كل كاتب ناشىء يسأل نفسه أولا هل هذا العمل قابل أن ينتقل إلى غيرى ويفهمه ولو فهما ظاهريا ويخرج منه بفائدة أم لا.. فهذه هى مشكلة الغموض فى الفن الحديث؟ حقى: نعم.. وفى زمن مضى كان الشاعر العربى يقول (علىَّ أن أقول القصيدة وليس عليَّ أن يفهم البقر).. فهل نسمح لأى فنان فى زماننا أن يقول مثل هذا الكلام؟ طبعا لا نسمح له. سؤال: أستاذ يحيى حقى.. هناك سؤال يتردد كثيرا هو: من أين يستمد الكاتب مادته؟ حقى: لو استمدها من الكتب فسوف تكون مادة مستعارة كأنها إعارة أو استعارة.. أى نقل من إنسان إلى إنسان إلى حد أن بعض الكتاب قالوا إن الكتاب هو عدوك.. فمع مطالبتى للأديب الناشىء بأن يقرأ أريد منه أن يكون مصدر أحاسيسه، ومصدر مشاعره، هو الاتصال المباشر بالناس التى سوف تعطيه التجارب الحية، وبالطبيعة والبيئة.. والناس يكملون بعضهم.. ويجب أن يتجول الكاتب وينسى تماما أثناء التجول أنه كاتب قصة، فالقصة لا تختطف هكذا من الحوادث أثناء التجوال. سؤال: وماذا عن اللغة عند الكاتب الشاب فى ظل ما نلحظه هذه الأيام من تدنى اللغة الشديد فى معظم ما نقراه من أعمال عند الشباب وعدم تمسكهم بسلامتها؟ حقى: طبعا أول نقد يوجه إليهم هى الأخطاء النحوية.. إن النحو ليس بهلوانيا فى اللغة أو قواعد مصطنعة ومفروضة فرضا على اللغة. النحو هو قدرة العقل على تكوين المعنى بمنطق سليم. اللغة العربية وضعت النحو لهذا. عندما نقول اسم كان مرفوع وخبرها منصوب فهذا تنظيم للغة وترتيب لها. لو نلقى نظرة على الإبداع الأدبى أو القصصى على وجه الخصوص فى مصر فى السنوات الأخيرة.. وأنت متابع لإبداعات الشباب وإصدارات كل الأدباء.. ما هى رؤيتك النقدية فى كلمات؟ حقى: الظاهر أن الشعب المصرى يحب الشكوى كثيرا. مثلا نسمع من يقول: ليس عندنا مجلات فأسأل: وهل تقرا أنت أى مجلة ثقافيه مثلا؟ فلو قلنا ليست لدينا قصة مزدهرة.. كيف نقول هذا؟ ألا ترى أن نجيب محفوظ مستمر فى الكتابة والحمد لله، وأخرج أخيرا الحرافيش التى تعتبر تحفة فى الأدب المصرى الحديث؟ ألا تسمع عن أسماء كتاب من الشبان يأخذون الجوائز وتعرض أعمالهم فى الإذاعة والتلفزيون بنجاح؟. هل هناك أسلوب معين تفضله عند كتابة القصة؟ حقى: هناك أسلوبان.. أسلوب (كنت عندهم وجيت).. هذا الأسلوب يحكى به المؤلف شيئا وقع فيما مضى فتجد أن الأفعال كلها فى صيغة الماضى. والأسلوب الثانى هو (تعالَ بُص الجماعة دول بيعملوا إيه) كأنك تأخذ القاريء وتطلب منه أن ينظر من ثقب المفتاح من باب مغلق على أناس يظنون أن أحدا لا يراهم.. وبهذا نشاهد الحدث وهو يقع. هناك فرق كبير لأننا عندما ننتقل إلى الأسلوب الثانى تدب الحياة فى القصة، أما السرد فى طبيعته ففيه نوع من الإملال.. ونحن نريد أن نكسر الإملال فى القصة. عندما نقول إن الكاتب يستمد تجاربه من واقعه هل هذا يجعلنا نعرج على المصطلحات النقدية التى يطالعنا بها النقاد، مثل الواقعية والرومانسية، وحتى أحدث مصطلح، وهو الواقعية السحرية؟ حقى: بجانب مطالبتنا الكاتب بأن يستمد أحاسيسه من تجاربه الواقعية نطالبه أيضا بأن يكون صاحب موهبة، والموهبة لا تمنح إلا للأشخاص الذين استكملوا ثقافتهم الروحية وثقافتهم الذهنية واتساع أفقهم، وأقصد بهذا ما نسميه بملكة الاستبطان، وهى قدرة الكاتب على أن يجعل نفسه مكان الشخص الذى يتحدث عنه. وكما قلت لك هذه الموهبة مهمة جدا. وأعود بكلامى إلى الكتاب الناشئين أريد من كل واحد منهم - وهو يشرع فى الكتابة أو فى الإنتاج الفنى - أن يشعر أنه لا ينقل نقل مسطرة عن الواقع. وأقصد أن رؤيته الذاتية هى التى تضفى نوعا من الحقيقة على الحقيقة الموجودة. هل لديك ملاحظات أخيرة تحب أن تتوجه بها إلى الأدباء الشبان؟ حقى: موضوع الأسلوب الجديد الذى نراه أحيانا - وهو الجمل القصيرة - طبعا للكاتب الحق فى أن يختار الأسلوب الذى يكتب به ولا نستطيع الاعتراض على أن يكتب بجمل منفصل بعضها عن بعض، لكن ينبغى أن يكون تحت هذه الجمل المنفصلة تيار شعورى متصل يعين القاريء على أن يعوم فى التيار الذى يريد الكاتب أن يوصله إلى القاريء.. فالارتباط لابد أن يكون ارتباطا شعوريا.