كعادته، سخر الرئيس الأمريكي من حلفاء واشنطن، واتهمهم بأنّهم تركوا بلاده تتحمّل غالبية أعباء الحرب في أفغانستان طوال 17 سنة، ويكتفون بإرسال مائة جندي ثم يقولون إنّهم منخرطون في أفغانستان، بينما الولاياتالمتحدة تتكلف مليارات الدولارات. وأمام حشد من الصحفيين، بعد اجتماع حكومته، قال الرئيس الأمريكي، متهكّمًا، إنّ رئيس وزراء الهند أخبره بأنّه قام ببناء مكتبة عامّة في أفغانستان. وأضاف: من المفترض أن أقول له شكرًا على المكتبة، مع أن البلد الغارق في الحرب لا يحتاج لمثل هذه المنشأة. أيضًا، وهو يعلن عن إرسال قوات إضافية، ضمن استراتيجيته الجديدة في أفغانستان، دعا الرئيس الأمريكي، في صيف 2017، الهند إلى بذل مزيد من الجهود في هذا البلد، خاصة في المساعدات الاقتصادية والتنمية، وهو ما استجابت له نيودلهي التي قدّمت لأفغانستان مساعدات قيمتها ثلاثة مليارات دولار، منذ قيام الولاياتالمتحدة بغزو أفغانستان، في 2001، وإطاحتها بنظام طالبان. وقامت نيودلهي بتمويل عددً من المشروعات، بينها إعادة إعمار مدارس. سخرية الرئيس الأمريكي من مشروعات الهند في أفغانستان، وتحديدًا من إنشائها للمكتبة العامة، ليست أكثر من ترجمة واقعية لما قاله الرئيس السيسي، في ديسمبر 2016: فيه دول من اللي حصل فيها فوضى، كان لديها تعليم جيد، ولم يكن بها أمية على الإطلاق. لكن يا ترى، هل صاغوا الشخصية اللي تحمي بلدها من الخراب والدمار؟ لأ، ما قدروش. هل صاغوا الشخصية اللي تحمي بلادهم من إن يبقى فيها قتل وتدمير وتخريب بالحجم اللي احنا بنشوفه ده؟ لأ، ما قدروش. يبقى فشل التعليم. ينفع التعليم في إيه، مع وطن ضايع؟!. أفغانستان، نموذج للوطن الضائع، وربما يضيع أكثر بعد أن قرر الرئيس الأمريكي أخيرا سحب نصف قواته من أفغانستان، البالغ عددها 14 ألف جندي، بهدف خفض النفقات الخارجية. وتبريرًا لهذا القرار، قال إنّ الاتّحاد السوفيتي تحوّل إلى روسيا لأنّه أفلس بسبب القتال في أفغانستان. وهنا، أنصحك بمشاهدة فيلمين، أحدهما روائي والآخر وثائقي: فيلم «حرب تشارلي ويلسون» الذي كتبه آرون سوركين وأخرجه مايك نيكولز وتشارك في بطولته جوليا روبرتس وتوم هانكس. أما الفيلم الوثائقي، فعنوانه «القصة الحقيقية لحرب تشارلي ويلسون»، وكتبه آرون بودين وتيرنس هنري وأخرجه ديفيد كين. من الفيلمين، ستعرف بعض تفاصيل تمويل وتدريب الولاياتالمتحدةالأمريكية ل«المجاهدين الأفغان». وستكتشف بسهولة أن أفغانستان عاشت، منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، تجربة مريرة مع الحرب الأهلية تخللها الغزو السوفيتي سنة 1979، وأنها كان يمكن أن تتجنب تلك التجربة، أو على الأقل تخرج منها بأقل الخسائر، لو صاغت الشخصية أو أنتجت العقول التي تحمي بلدها من الخراب والدمار، وتمنع القتل والتدمير والتخريب بالحجم الذي رأيناه وما زلنا نراه. لكن يبدو أن الشخصية الأفغانية ظلت فارغة حتى ملأها إرهابيو طالبان والقاعدة، بالضبط كما كانت عقول من تركوا أوطانهم وذهبوا ليشاركوا في التخريب بزعم أنهم يخوضون حربًا مقدسة، بينما كانوا يخوضون بالوكالة حربًا لم تشعلها الولاياتالمتحدة، بل زادتها اشتعالًا. برحيل السوفييت، سنة 1989، انتهت الحرب بالوكالة، أو الحرب المقدسة المزعومة، لتستمر بعدها حروب داخلية، لم ينجح في وقفها اتفاق بيشاور، سنة 1992، بين الأحزاب والحركات المتناحرة، وكذا اتفاقية إسلام أباد، سنة 1993، وحين ظهرت حركة طالبان، في نوفمبر 1994، تمكنت خلال عامين من السيطرة على البلاد، وبدخولها العاصمة، كابول، سنة 1996، أعلنت توليها حكم البلاد وأزاحت برهان الدين رباني وقلب الدين حكمتيار، اللذين كانا قد اتفقا على اقتسام السلطة والعمل المشترك. استمرت سيطرة الحركة الإرهابية على أفغانستان حتى أطاح بها الغزو الأمريكي، في 7 أكتوبر 2001، ومن وقتها، وطوال 17 عامًا، لا يكاد يوم يمر دون أن تقرأ أو تسمع عن مصرع البعض وإصابة البعض الآخر، إما في هجوم للقوات الأمريكية أو قام به مسلحون مجهولون. وهكذا، كان طبيعيًا أن يسخر الرئيس الأمريكي من المكتبة العامة التي لا يعرف من يمكنه استخدامها في أفغانستان. وكان منطقيًا ألا يلتفت إلى المليارات الثلاثة التي أنفقتها الهند على نشر برامج التعليم الحديث وإعادة إعمار المدارس، وعلى مشروعات تنموية وتثقيفية، كالمكتبة العامة. إذ إن البلد الغارق في الحرب لا يحتاج، فعلًا، لمثل هذه المشروعات أو المنشآت. ألم نقل: ماذا يفعل التعليم، أو ينفع التعليم في إيه، مع وطن ضايع؟!. لم يكن الرئيس عبدالفتاح السيسي ينتقص من قيمة التعليم حين قال ذلك، بل كان يحدد الهدف الذي ينبغي أن تسعى الدول إلى تحقيقه بالتعليم وبغيره، وهو صياغة شخصية المواطن بالشكل الذي يجعله قادرًا على حماية بلاده، وعلى أن يخوض معركتي البقاء والبناء ببسالة، وعلى أن يقدم التضحيات من أجل تحقيق مستقبل أفضل له وللأجيال المقبلة. لمزيد من مقالات ماجد حبته