كان للولايات المتحدة دور كبير فى تشكيل خريطة أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، فكانت حجر الزاوية فى تأسيس حلف شمال الأطلنطى «الناتو»، ودعمت الاتحاد الأوروبى ليصبح قوة غربية فى مواجهة الاتحاد السوفيتى وقتذاك. واليوم، يقود أمريكا رئيسا يرى أن ذلك النوع من التحالفات الغربية أصبح «موضة قديمة» عفى عليها الزمن، وأنه قد حان الوقت لرفع شعر القومية ونسف مبادئ التعددية والعولمة وإعلاء المصالح الأحادية حتى ولو على حساب أقرب وأقدم الحلفاء. فلم يستثن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أوروبا من تطبيق سياسته الخارجية القائمة على مبدأ «أمريكا أولا»، والتى تسببت حتى الآن فى أكبر صدع فى التحالف الأمريكى - الأوروبي. بدأ الخلاف بين ترامب وقادة أوروبا فى أول الأمر على استحياء فى شكل انتقادات مبطنة إلى أن تحول إلى تراشق علنى ظهر فى عدة مناسبات متعاقبة خلال 2018. ففى أجواء وصفت ب«المسمومة»، شن ترامب هجوما عنيفا على قادة أوروبا خلال قمة «الناتو» فى يوليو الماضي، متهما إياهم بالتقصير فى تحمل نفقاتهم العسكرية، كما فتح النار على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل واصفا ألمانيا بأنها «رهينة لروسيا» بسبب وارداتها من الغاز الروسى. وخلال الاحتفال بمرور 100 عام على انتهاء الحرب العالمية الأولي، بدا الرئيس الأمريكى منعزلا وسط قادة أوروبا الذين انتقدوا فى خطاباتهم ما وصفوه بالسياسات الشعبوية والاتجاه للقومية والعزلة. التراشق الأكبر جاء بين ترامب والرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، الذى يرى أن سياسيات ترامب أصبحت تشكل تهديدا حقيقيا على أوروبا، وهو ما دفعه إلى الدعوة لتكوين جيش أوروبى موحد وسط دعوات أوروبية متصاعدة بالتوقف عن الاعتماد على واشنطن فى حماية الأمن الأوروبي. ولم يتوقف التصعيد بين ترامب وماكرون عند هذا الحد، بل وصل إلى حد استهزاء وسخرية ترامب من الاضطرابات الأخيرة التى جرت فى فرنسا بسبب الاحتجاجات على غلاء المعيشة، إذ تدخل قائلا إن الفرنسيين يريدون رئيسا مثله، فى إشارة إلى أن سياسات ماكرون وما على شاكلتها من السياسات الأوروبية التى أصبحت لا تروق لرجل الشارع الأوروبي. وتصاعدت الخلافات بين قطبى التحالف الغربى حول الاتفاق النووى الإيرانى الذى انسحبت منه واشنطن فيما أعربت أوروبا عن التزامها الكامل به، وسط غضب وقلق أوروبى شديدين على مصير شركاتها العاملة مع إيران فى ظل عودة العقوبات الأمريكية. وأخيرا، جاءت الصدمة الكبرى متمثلة فى قرار ترامب بالانسحاب المفاجيء من سوريا دون إبلاغ حلفائه الأوروبيين الذين أكدوا أن الإجراء الأمريكى الأحادى يعرض أمن أوروبا لمزيد من المخاطر لما قد يمثله الانسحاب من فرصة لتنظيم داعش الإرهابى لإعادة تنظيم صفوفه وشن مزيد من الهجمات على أوروبا. والغريب الذى لا يعرف الكثيرون تفسيرا له، هو هذا التقارب الواضح بين الرئيس الأمريكى وروسيا والذى بدا جليا فى قمة ترامب والرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى هلسنكي، ورفض ترامب اتهام موسكو بالتدخل فى انتخابات الرئاسة الأمريكية، فقد خلق ذلك التقارب مشهدا عبثيا لم يكن يتخيله أحد، وهو أن يعامل رئيس أمريكى خصومه بشكل أفضل مما يعامل حلفاءه. والحقيقة أن الخلاف الأوروبى - الأمريكى أصبح خلافا جوهريا على الأولويات والمبادئ التى أرساها الغرب عقب انتهاء الحروب وهى قيم الديمقراطية والتعددية والتكامل الاقتصادى والسياسي. وأمام هذا التغير الخطير، والذى يهدد بتغيير النظام العالمى كله، يواجه قادة أوروبا الاختيار، إما الاستسلام لحالة التفكك والضعف وصعود اليمين المتطرف وعودة أجواء الحروب الأولي، أو أن يكسبهم «الغياب الأمريكي» قوة أكبر لإصلاح الشقاق الذى ضرب أوروبا والاتجاه نحو مزيد من التكامل والوحدة فى مختلف المجالات وحماية المبادئ الأوروبية السياسية والثقافية.