كلما بدأنا وداع العام الماضى قبل الترحيب بالآتى. أتذكر من ماتوا. أتوقف أمام حكاياتهم. أسأل نفسى ولا إجابة هل لكونى أنتمى لحضارة أهم ما تركته مقابر وجبانات؟ وأقول ربما. يأخذنى الموتى لسنوات قريتى. ويطل السؤال: هل لأن قريتى يحدها من الشمال مقابر المسلمين؟ ومن الجنوب مقابر المسيحيين؟. مع وداع 2018، أتوقف أمام من أخذهم قبل أن يمضى ويتركنا. لأكن دقيقاً من أخذهم الموت منا قبل أن يأخذ منا 2018 بكل ما حمل من أحزان ومن بكائيات وبما سكبناه فيه من دموع على أحبتنا. كلما تقدم الإنسان فى العمر أصبح مهدداً بجفاف العين. ولذلك عندما يبكى يكون البكاء جافاً. لأن الأدوية التى تلطف العين لمن مرض بجفافها مثلى لا تصلح أن تكون دموعاً صناعية. والدموع الصناعية فى حد ذاتها مأساة أخرى. ودعنا أحمد خالد توفيق. رحل فى الثانى من أبريل. وكان عمره 56 عاماً. اهتمامى به بدأ مع رحيله. عندما اكتشفت جماهير تقرأ له لم أشاهد مثلها من قبل. خصوصاً من الشباب. فى التأبين الذى أقامته لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة. فوجئت بزحف شبابى نادر الحدوث والكثير جاءوا من طنطاالمدينة التى عاش وكتب فيها ولم يغادرها إلى القاهرة. بعد رحيله وعندما امتلأت الأسواق بكتبه كما يحدث مع موتانا. وجدتها كثيرة. والإقبال عليها غير عادى. وأرقام الطبعات مثيرة تكسر ما نقوله عن عدم القراءة. وعن أن القراءة مضت. ومن كانوا يقرأون لم يعد لهم وجود. انصب اهتمامى على الكتب التى كانت تجميعاً لمقالات يشرح فيها كيف يقرأ؟ وكيف يكتب؟ لكن جماهيريته الكاسحة لا أدرى هل استمرت؟ أم أنها كانت تعبيراً عن لوعة الفراق هذه الجماهيرية تحتاج لموقف ودراسة وتأمل. فى 21 أغسطس، رحل الدكتور رمسيس عوض. لم أعرف برحيله رغم متابعتى الدقيقة ما يجرى. لم أعرف أنه رحل غير مع حصاد العام الذى تحرص الصحف على نشره مع الأيام الأخيرة. عرفنا رمسيس عوض باعتباره شقيق لويس عوض. رأيتهما معاً مرة واحدة. ولا أحب التوقف أمام ما بينهما من جفوة من النادر أن نجدها بين شقيقين. لكن مشكلة رمسيس عوض الأساسية ولا أحب أن أكون متجنياً فأنا أكتب عمن سبقنا للدار الباقية أنه كان شقيق لويس عوض، ملأ الدنيا وشغل الناس. وكان لديه ما يقوله. ثم إن رمسيس حاول أن ينجز فى نفس الميدان الذى سبقه إليه لويس. وأبدع فيه إبداعاً لا يقترب منه أحد. روائى سوريا الجميل حنا مينا، روائى البحار والشواطئ وحياة الناس على الحافة بين الماء واليابسة رحل فى 21 أغسطس 2018، والمثير أنهم قالوا وكتبوا أنه رحل عن أربعة وتسعين عاماً. لا يفصله عن رحيل نجيب محفوظ سوى عامين. وربما لم نعرف وقتها برحيل حنا مينا. فبلاده كانت تمر بظروف أقسى من القسوة. وأصعب من الصعوبة. ولا أعتقد أن الأشقاء السوريين والمثقفين العرب فى المقدمة منهم المثقفون المصريون لم يتوقفوا لكى يقولوا وداعاً لحنا مينا. فى الخامس والعشرين من سبتمبر رحل إسماعيل فهد إسماعيل. قابلته فى الكويت رغم أنه كما عرفت منه أنه ينتمى لعائلة كانت تعيش فى البصرة. وحكى لى عن العلاقات المكانية بالنسبة للعائلات قبل اختراع الدول الحديثة التى خرجنا لنجدها تحد الحدود من هنا وهناك. عندما كنا نعيش فى الوطن العربى. الرجل أسس فن السرد فى الخليج الشقيق. لكن له رواية من أجزاء عن مصر عنوانها: النيل يجرى شمالاً البدايات 1983. النيل يجرى شمالاً النواطير 1984. النيل الطعم والرائحة 1989. كان من أصفى الناس. له كتاب عن سعد الله ونوس ومسرحه. وكتاب عن ليلى العثمان. وكان يحتضن الروائى الذى كان شاباً وقتها طالب الرفاعى. لدرجة أننى خيل إلىَّ أنه ابن شقيقته. أو ابنه الروحى. لا يتصور أحد أن الموت اختراع مصرى. أو أنه حدث عربى. فهو يحدث فى كل مكان يوجد فيه الإنسان. وهو النهاية التى لا مفر منها. نهاية كل النهايات. سواء ارتضيناه، أو رحبنا به، أو حاولنا الهروب منه، أو قاومنا مجيئه بالأدوية والامتثال لما يريده الأطباء منا. لكنه القدر الذى لا فكاك منه. رحل فى 2018 الروائى الأمريكى فيليب روث، الذى كانوا يقولون عنه فى حياته إنه المرشح الأبدى لجائزة نوبل. وفى كل عام كان الإعلام يركز عليه. لكن الجائزة كانت تتخطاه إلى الآخرين. ورحل فى سنة تم حجب جائزة نوبل فيه لثانى مرة بسبب بعض الفضائح الجنسية التى توسع الإعلام الغربى فى الكتابة عنها. رغم أن الكلام عن الفضائح الجنسية تخصهم وحدهم. فى 4 مايو الماضى ثار جدل واسع حول الفضائح الجنسية التى ارتكبها الفنان جون كلود إرنو، زوج الشاعرة والكاتبة المسرحية وعضو الأكاديمية السويدية كاترينا فروستنسن. وقيل وقتها إنها المرة السابعة فى تاريخ الجائزة المهمة والأولى عالمياً التى يتم حجبها فيها. المهم أن الحجب لم يثر ما كنت أتصور أنه سيثيره لدى أدباء العالم. خاصة تلك الفئة التى تنتظر الجائزة كل عام. وتعتبر أن الحصول عليها تتويج لرحلة العمر. كاتب ترينيداد ذو الجذور الهندية الروائى فيديادر سوراجبراساد نيبول، ولد فى عام 1932 فى شاغو اناس فى ترينيداد. ينتمى إلى أسرة هندوسية هاجرت من الهند. ترجمت له إلى اللغة العربية روايته: شارع ميجيل، 1959، وصدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن سلسلة الجوائز 1977. ورواية: فى منعطف النهر، وصدرت عن دار الهلال ضمن سلسلة روايات الهلال عام 1992. ولمن نسى والنسيان نعمة لنا جميعاً. فقد حصل على جائزة نوبل عام 2001، وكان سبق وحصل على جائزة البوكر الأدبية نوبل أوروبا سنة 1970. لا أحب التوسع فى الكلام عن الموتى. فالأحياء من حقهم أن يهاجموننى ويقولون بصوت عالٍ وربما يكتبون أن الكتابة عن الموتى ربما كانت أنانية وهروبا وابتعادا عن الكتابة عن الأحياء الذين هم الأحق. لا أحد يعرف من الأحق بالكتابة. من ماتوا أم من بقوا؟. لمزيد من مقالات يوسف القعيد