برفضها مشاركة مراقبين من أوروبا وأمريكا للانتخابات الرئاسية اليوم ألقت حكومة الكونغو- كينشاسا مزيدًا من الوقود علي النار في بلد لم يسبق أن شهد انتقالا سلميا للسلطة منذ استقلاله عن بلجيكا عام 1960 وأودت الصراعات علي الحكم بحياة خمسة ملايين من أبنائه قتلًا وجوعًا ومرضًا خلال العشرين عاما الأخيرة ولا يحتمل المزيد.فاقتصار مراقبة عملية الاقتراع في 75 ألف مركز انتخابي علي مراقبين أفارقة أقل خبرة وصراحة وأكثر خجلًا وتماشيًا مع الأنظمة الحاكمة يعمِّق شكوك مرشحي المعارضة في نزاهة الانتخابات ويعطيها ذرائع قوية لرفض النتائج وإثارة أنصارها مما قد يشعل أعمال عنف جديدة مصحوبة بالتخريب والتدمير ويزج بالبلد الملتهب في حرب أهلية جديدة. الرفض الحكومي لم يقتصر علي المراقبين الغربيين، فقد تم أيضا بدعوي الحفاظ علي السيادة الوطنية رفض أي مساعدة مالية أو لوجيستية بما فيها الاستغناء عن طائرات بعثة الأممالمتحدة هناك لنقل صناديق الانتخابات ومعدات الاقتراع في بلد تعادل مساحته دول غرب أوروبا مجتمعة (2.3 مليون كم2) ولا تزيد شبكة الطرق فيه علي 3400 كيلومتر وفيه مناطق لم تطأها قدم إنسان حتي الآن وتكلَّفه الانتخابات 10% من الميزانية. في ظل هذه الأوضاع يصعب إقناع أحزاب المعارضة وأنصارها بنزاهة العملية الانتخابية، حيث اتهم بعضها الحكومة مسبقًا بتدبير عمليات تزوير لضمان فوز إيمانويل شاداري المرشح الذي اختاره الرئيس جوزيف كابيلا لخلافته بما في ذلك استخدام ماكينات اقتراع إلكتروني يمكن من خلالها التلاعب بالتصويت لصالحه أو إثارة فوضي انتخابية تستخدمها كذريعة لبقاء كابيلا في الحكم، ولذلك رفضوا استخدامها وأحرق معارضون ثمانية آلاف منها تمثل ثلثي المطلوب للعاصمة كينشاسا. كابيلا الذي خلف والده المغتال عام 2001 كان من المفروض أن يتخلي عن السلطة منذ عامين لكن السلطات تذرعت بعدم قدرتها علي إجراء انتخابات قبل مرور عامين لعدم الانتهاء من تسجيل ملايين الشباب في القوائم، ولأن الدستور يقضي ببقاء الرئيس حتي يتم انتخاب آخر، ولذا بقي عامين إضافيين حدثت خلالهما احتجاجات وأعمال عنف دموية وتنكيل بالمعارضة وقادتها وتزايدت الشكوك في أنه يخطط لتعديل الدستور للترشح لفترة ثالثة حتي أعلن قبل أسابيع فقط أنه لن يرشح نفسه، الأمر الذي أحدث قدرا من الارتياح لدي المعارضة وأولئك المشفقين علي نحو 80 مليون كونغولي عانوا ومازالوا ويلات الحرب والعنف. غير أن ترشيحه ودعمه لشاداري الأمين العام لحزب الشعب لإعادة الاعمار والديمقراطية الحاكم ووزير داخليته السابق ألقي بشكوك قوية حول رغبته في مواصلة الحكم من وراء الستار حتي يتمكن من ترشيح نفسه في الانتخابات التالية. وعزز الشكوك إفصاح بعض الناخبين في مدينة جوما بشرق البلاد عن تلقي بعضهم رشاوي مالية بلغت ما يعادل 30 دولارًا للفرد للتصويت لمرشح الحكومة وحظر السلطات ترشح نائبه السابق جان بيير بيمبا بحجة أن المحكمة الجنائية الدولية أدانته برشوة الشهود في قضية محاكمته أمامها بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية انتهت بتبرئته منها لعدم كفاية الأدلة، كما حظرت ترشح حاكم إقليم كاتنجا السابق موسيه كاتومبي بتهمة التحريض علي العنف والتمرد علي الحكومة في الإقليم الغني بالمعادن ثم استبعاد ثلاث مناطق تُعتبر من معاقل المعارضة الانتخابية وتضم مليون صوت من الاقتراع لعدم كفاية الأمن وتفشي الإيبولا ليتم التصويت بها في مارس المقبل بعد أن يكون قد تم تنصيب المرشح الفائز بأكثر من شهرين. لهذه الأسباب يسود اعتقاد قوي بأن عدم ترشح كابيلا لن يحل الأزمة وهناك احتمال كبير باندلاع العنف خلال الاقتراع وربما بدرجة أكبر وأكثر دموية يوم إعلان النتيجة، فانعدام الثقة بين السلطة والمعارضة متجذر ويزيده التهابًا غياب مراقبين محايدين واتهام الحكومة المتوقع بالتزوير لمصلحة مرشحها وترهيب الناخبين من أنصار المعارضة تلحرمان مرشحيها من أكبر عدد من الأصوات. ولأن المعارضة نفسها منقسمة، مما أدي إلي إضعاف فرصتها في إسقاط مرشح الحكومة فمن المؤكد أن تبرر عدم فوز أي من مرشحيها- إذا حدث- بارتكاب تزوير وربما تدعو أنصارها للانتقام بالاحتجاج والعنف فتتصدي لهم قوات الأمن بالقوة المفرطة وتسيل الدماء أنهارا. فبعد أن اتفق سبعة من قادة المعارضة في اجتماع بجنيف علي المنافسة بمرشح واحد هو رجل الأعمال مارتن فايولو انسحب القيادي المعارض فيليكس تشيسكيدي من الاتفاق ورشح نفسه ومعه القيادي فيتال كاموري كنائب له بعد انسحابه هو الآخر بدعوي أن جماهير حزبيهما لم توافق علي فايولو كمرشح وحيد للمعارضة. مما سبق يمكن استنتاج أن الانتخابات في بلد يعاني الأغلبية العظمي من سكانه الفقر ولا يزيد متوسط دخل الفرد اليومي علي 1.25 دولار لن تجري بحرية ونزاهة. ولو توافر الحد الأدني من حرية التصويت وعدم التلاعب بالنتائج فمن المؤكد ألَّا يفوز مرشح الحكومة لافتقاره للشخصية الكاريزمية القادرة علي جعل الناس يلتفون حوله فضلًا عن قمعه احتجاجات الشارع ضد كابيلا وزجِّه بقادة وأنصار للمعارضة في المعتقلات خلال توليه وزارة الداخلية فعاقبه الاتحاد الأوروبي مع 13 مسئولا آخرين. أما المعارضة- رغم انقسامها- فتقف وراء مرشحها الأساسي فايولو شخصيتان من الوزن الثقيل هما بيمبا وكاتومي، كما أنه يتمتع بشعبية في العاصمة كينشاسا وينحدر أهله من إقليم باندوندو الغربي مما يضمن له الكثير من الأصوات وسبق أن شارك في الاحتجاجات ضد التمديد لكابيلا ويريد تعديل عقود التعدين والبترول مع الشركات الأجنبية لمصلحة الدولة مستفيدًا من خبرته في العمل مع شركة بترول عالمية. كما لا أستبعد أن يفوز تشيسكيدي مستفيدًا من تاريخ والده النضالي في المعارضة قبل وفاته ولكونه زعيم أكبر حزب معارض هو الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم الاجتماعي لمزيد من مقالات عطية عيسوى