* كيف لا يكون لدينا وزارة للصناعات الثقافية كالتى بأندونيسيا تولى الدكتور شاكر عبد الحميد مناصب ثقافية رفيعة، فكان وزيرا للثقافة، وأمينا عاما للمجلس الأعلى للثقافة، ونائبا لرئيس أكاديمية الفنون، وعميدا للمعهد العالى للنقد الفنى. وقد حصل على عدة جوائز مهمة، منها جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية. وتفخر المكتبة العربية بكتبه واسهاماته الفكرية والنقدية، المؤلفة والمترجمة، نذكر منها: «الخيال» و«عصر الصورة»، و«الفن وتطور الثقافة الانسانية»، و«الأسطورة والمعنى»، و«الفن والغرابة» و«الأدب والجنون» و«الأسس الثقافية للابداع الأدبى» و«الحلم والرمز والأسطورة» و«عصر الصورة» و«التفضيل الجمالى» و«مدخل الى الدراسة النفسية للأدب». ولعلنى لا أبالغ حينما أقول أننى سعيت اليه، كعصفور سعيد الحظ، ذهب الى نهر عذب، وعاد بقطرات ثمينة. ........................... إذا تصوّرنا الثقافة المصرية،والعربية على طاولة الفحص الطبى، فهل نجدها فى أتم الصحة والعافية, أم عليلة الجسد والروح, أو مصابة بوهن الشيخوخة؟ - أعتقد أننا سنجدها فى حالة سيئة. سنراها هائمة, تبحث عن روحها المفقودة. وروح الثقافة تتكون من ثلاثة عناصر، هى الماضى والحاضر والمستقبل. والماضى يتكون من التراث والدين. والحاضر مرتبط بسلوكيات الناس. أما المستقبل فمرتبط بالإبداع، والإبداع مرتبط بالخيال، الخيال فى الفن والعلم والأدب. ونحن خيالنا «قاصر». «قاصر» أم «مربوط»؟ - كلاهما. عالِم النفس الأمريكى «سليجمان» صاحب نظرية «العجز المكتسب» أجرى تجاربه على الكلاب، قبل البشر. جاء بكلب شرس, حبسه وجوّعه.. ثم وضع قطعة لحم يفصلها عن الكلب حاجز خفى مكهرب، ثم حرر الكلب, فانطلق لتناول اللحم، مرورًا بالحاجز المكهرب، فأصيب بصدمة كهربائية مؤلمة.. وكرر الكلب المحاولة, فتكرر الألم، وتملكه الخوف حتى أصيب بحالة من «العجز المكتسب»، وتوقف عن المحاولة. ثم أراد «سليجمان» القضاء على حالة الخوف التى سبَّبت «العجز المكتسب»، فأزال الحاجز المكهرب، وأتَى بكلب آخر، وجعله يمُرُ بسلام ليأكل اللحم أمام الكلب الأول.. ثم مجموعة من الكلاب، كلها تمرُ لتأكل بسلام.. والكلب الأول يشاهدها، ولا يجرؤ على مشاركتها.. ثم بدأ يقلّدها بمرور الوقت، وأخيرًا تناول اللحم دون خوف أو ألم. نحن أقرب لهذه الحالة، وللتخلص منها لا بد من فترة تقليد ومحاكاة، ثم فترة تنافس مع الدول من حولنا. وأعتقد أننا تجاوزنا مرحلة التقليد والمحاكاة، ولا بد أن نكون فى مرحلة التنافس والإبداع، لأن مَنْ يتوقف عند مرحلة المحاكاة والتقليد لا يتقدم، وبالتأكيد لا يتقدم من يكتفى بالمشاهدة؟ هل تذكر مثالًا؟ - اليابان كانت مُدّمرة بعد الحرب العالمية الثانية.. لكن أصحاب مصانع السيارات- مثلًا- جاءوا بالمهندسين الشباب وخريجى المدارس الصناعية، وقالوا لهم: «لدينا سيارات جيدة، لكنها ليست الأفضل. سنرسلكم فى بعثات إلى أمريكا وانجلترا وفرنسا لمدة عام، للدراسة والاطلاع على أحدث وأفضل ما وصلت إليه الصناعة والتكنولوجيا ثم تعودون لإفادتنا»، وبعد عودتهم، يستخلصون كل ما حصلوا عليه من علوم ومعارف، للانطلاق من مرحلة التقليد والمحاكاة إلى الإبداع والتنافس بإنتاجهم الخاص. والسؤال الآن: هل نستطيع أن نفعل ذلك؟ - نعم، نستطيع. من فعلوها قبلنا ليسوا أفضل مِنَّا. وهكذا تكون «المصَروَة» و»العروبة» فى مقابل «العولمة»؟ - دعك من هذا، المصطلحات تأتى بعد الأعمال، ولن نتقدم أبدًا طالما نكتفى بالكلام. أصحاب «العولمة» ابتدعوها وهم يعملون. كل المدارس الفنية – مثلًا – ظهرت فى الغرب، الكلاسيكية والتكعيبية والسيريالية والتجريدية والفيديو آرت. أما نحن فنقول أننا أصحاب حضارة عمرها سبعة آلاف سنة، ولا نقدم شيئًا للفكر والعلم والحضارة. صحيح أن لدينا آداب وفنون، لكن الفن تراجع. ربما ابتدعنا «الحروفية»، لأن لدينا الخط العربى، لكن هذا قليل جدا. فلنعمل وننتج، ثم نبتدع مصطلحاتنا الخاصة. ربما وصلوا – فى الغرب- إلى هذه المراحل المتقدمة بعدما «شبعوا» ماديًا ومعنويًا!؟ - ليس شرطًا. ربما يكون الفقير فى حالٍ أفضل من الثرى الذى ربما يموتُ متخمًا. لكننى – بالتأكيد – ضد الظلم المادى والمعنوى على السواء. ومع العدالة الاجتماعية، لأنها - مع التعليم والديمقراطية - أساس تقدُّم أى مجتمع. «المتقدمون» اشتغلوا على دعائم الحرية والتعليم الجيد والخيال الحر، وأوجدوا نظامًا يكافئ المخلص والمجتهد فى عمله. لكننا نُحبط مَنْ يعمل جيدًا، وربما نقصيه ونأتى مكانه بالفاشل. والعجيب أن الذين يهربون من مصر، أو يتم دفعهم للهجرة.. ينجحون ويتفوقون فى الخارج، وهكذا نخسر عقولًا مبدعة بسبب النُّظُم الخاطئة, وعدم تطبيق القانون على الجميع. من العجائب فى الجامعات المصرية – مثلًا – أن الأستاذ الكبير أو رئيس القسم لا يُحاسَب، لأن لدينا «محسوبيات» وعِلل اجتماعية مُزرية. ولو أنصفنا لحاكمنا كل مسئول «يُطفش» أى كفاءة جيدة ويمنع الانتفاع بها داخل الوطن. لكن الظروف المادية والحياتية السيئة ربما تكون من أهم عوامل هجرة الكفاءات الجيدة؟ - وإذا كانت لدينا بطالة رهيبة بالنسبة لخريجى كليات الهندسة والفنون مثلًا، فلماذا لا نقيم مشروعات ضخمة تستوعبهم وتفيد الوطن؟. نحن نتحدث هكذا، بينما «اندونيسيا» لديها وزارة للصناعات الثقافية والسياحة. ألسنا أولى بأن تكون لدينا وزارة للصناعات الثقافية؟ قد يرى المسئولون فى ذلك بذخًا أو تبذيرًا؟! - وحتى لو كُنّا نريد التوفير فمن الممكن أن ننشئ قطاعًا متخصصًا بوزارة الثقافة. ولو أنشأنا هذه الوزارة أو القطاع، فعلى الأقل سيكون لدينا إحصائيات وخرائط ثقافية لمصر، ونوفر عملًا جيدًا للشباب، ونجنى أرباحا هائلة، لأن الصناعات الثقافية تشمل الفنون والأزياء والحرف اليدوية والأفلام والموسيقى والكمبيوتر والبرمجيات والألعاب التفاعلية والنشر. ثم ان نظرية «التحدى والاستجابة» تعنى أن تكون لدينا مشكلة فنستجيب لها بحلول جيدة, من المبدعين وأصحاب الخيال الخصب الحُر. يقولون إنهم هناك.. فى أمريكا يحرصون على وجود بعض كُتَّاب الخيال العلمى فى اللجان العلمية الخاصة بأهم وأخطر المشروعات العلمية، مثل «حرب الكواكب»؟ - لأن كُتّاب الخيال العلمى هم السبّاقون بخيالهم المبدع، فتجد أن «ﭽى إتش ويلز» يتخيَّل الغواصة و»آلة الزمن»، و»جول فيرن» يستخدم الصاروخ، فى بعض مؤلفاتهما، قبل أن يفكر أحد فى هذه الاختراعات.. وقبلهما بقرون يبتكر الفنان العبقرى «داﭭنشى» الطائرة.. والأمثلة كثيرة جدًا. وعندما سِيَر العلماء، نجد الخيال شيء أساسى فى حياتهم. وقد يكون الخيال مبدعا، حتى فى الأحلام؟! - أذكر -مثلا - حكاية عالم متخصص فى الكيمياء, كان مشغولًا بالتفكير فى حل علمى يتعلق بتطوير «البنزين».. وأخذه التفكير حتى نام.. ورأى فى منامه «حيَّة» تزحف، ثم تلتف حول نفسها لتعض ذيلها, فاستيقظ وقد ألهمته حركة الحية أنه ربما يكون قد أخطأ فى معادلاته بسبب ترتيب خطواتها, وأعاد التجربة بعدما عكس خطوات المعادلة، فنجحت، لكن الخيال الملهم لا يتأتى لأى شخص فى أحلامه، وإنما يزور العلماء والمبدعين الذين تعمل عقولهم ليل نهار على مدى شهور وأعوام، فتأتى أحلامهم أحيانًا كومضات عبقرية مبهرة. ملايين البشر عبر التاريخ رأوا تفاحًا يسقط من فوق الشجر، لكن شخصًا واحدًا اكتشف نظرية علمية عبقرية عندما لاحظ تفاحة تسقط، ومن الجميل أن «نيوتن» كان أمينا عندما قال «إذا كنتُ قد رأيتُ أبعد من غيري، فذلك لأننى وقفت على أكتاف الذين سبقونى». لقد كان عبقريا، لا ينكر فضل العلماء الذين سبقوه، لكننا فى مصر لا نفعل مثل ذلك، فمن يأتى فى موقع سلطة مثلًا يسارع بمحو مَنْ سبقه! لماذا يأتى كل مسئول – إلى السلطة- برجاله، ويزيح رجال من سبقه؟ - ربما لأنه يخشى أن يكونوا «جواسيس» وينقلون أخباره لمنافسيه أو أصحاب السلطة الأعلى. وهذا من العِلَل التى يجب التخلُّص منها، فالمسئول لن يُخلَّد فى منصبه، لكن تبقى المؤسسات. ومن يأتى فى منصب، عليه أن يجبر الناس على نقل أخبار طيبة عنه، من خلال عمله المخلص، ويترفّع عن هذه الأشياء التى تعيق التقدّم. هل حركة الترجمة من اللغات الأجنبية وإليها كافية الآن؟ - ليس لدينا حركة ترجمة نشطة أو كافية، رغم وجود المركز القومى للترجمة وبعض السلاسل التى تنشر أعملًا مترجمة. فى المشروع القومى للترجمة، يطبعون ألف نسخة من الكتاب، ويطرحونها للبيع – بسعر مرتفع – ولا يفكرون فى زيادة الطبع والتوزيع إلا بعد نفاذها، غم علمهم بأن حركة البيع بطيئة ومحدودة جدًا، ولا أدرى السبب فى عدم تقديم «طبعات شعبية» بأسعار معقولة. هل تستطيع الطبعات الشعبية أن تزيد البيع، وتواجه مشكلة القرصنة على الكتب الناجحة؟ - إن لم تحل الطبعات الشعبية أزمة الكتب، فهى تستطيع أن تساهم فى الحل. القارئ إذا وجد مطبوعة جيدة بسعر معقول، فسوف يزيد إقباله عليها. وليس من المعقول أن يتركها ليشترى نسخة مزيفة من المطبوعة نفسها وهو يعلم أن شخصًا قام بالسطو عليها وطبعها لحسابه دون علم مؤلفها وناشرها. الطبعات الشعبية حتمية بالنسبة للكتب المهمة بالذات. لكن زيادة أسعار الكتب مرتبطة بارتفاع سعر الدولار والاستيراد. والمؤلم العجيب أن نستورد الورق وقد كان لدينا مصانع للورق منذ زمن طويل, ولا أدرى أين ذهبت هذه المصانع! أليس غريبا أن يهتم المترجمون بالأعمال الأجنبية، حتى العادى جدا منها، ولبعض المجهولين، بينما الترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية ضئيلة، وتكاد تنحصر فى حالات فردية تعتمد على التحركات والعلاقات الشخصية؟ - توجد أسماء كثيرة جدًا لا نعرفها, لكنها معروفة فى بلادها. وجزء من المشكلة أن المترجمين ربما يهتمون بأسماء أو بلاد بعينها، وهؤلاء الذين نجهلهم قد يكونوا فى اليابان أو الهند أو الصين وحتى أمريكا وانجلترا وفرنسا. ونحن ليس لدينا ما نترجمه سوى الأدب, والبعض يهتم كالجامعة الأمريكية، حيث تترجم الأعمال الفائزة بجائزة نجيب محفوظ، لكننى أعتقد أن الترجمة من اللغات الأجنبية إلى العربية أهم. والعمل – العربى – الجيد يفرض نفسه، ويجعل المترجمين يسعون إليه. تطاير السباب واشتغل الغضب، عندما ذكرت مقولة «يفرض نفسه» لأحد كبار الكُتّاب!؟. - لماذا؟! لأنه أبدع وفرض نفسه، وهذا صعب، وسعى إليه مَنْ يريد ترجمة بعض أعماله، وهذا نادر، ثم إن «أولاد الحلال» تطوعوا بإبعاد و«تتويه» من يسعى إليه!؟ - نعم. هذا يحدث للأسف. وأذكر أن أحدهم أعدّ دراسة عن القصة القصيرة فى مصر، ولم يذكر أحد الأسماء المهمة، وعندما سألته عن سبب تجاهله، ضحك قائلًا «لم أكن أدرى»، رغم يقينى أنه يعرفه ويعرف قيمته جيدًا. ما السبب فى اعتقادك؟ - «الشللية» وهى من آفاتنا الفظيعة، وبهذه الشللية تم رفع أدباء منخفضى القيمة، وخفض أدباء مرتفعى المستوى. والشللية قد تكون حسب التصنيف السياسى مثلًا، شيوعى أو ناصرى أو اشتراكى.. الخ. أليس الانتماء «الإبداعى» أفضل وأولى؟! - نعم. وأعتقد أننا تجاوزنا تلك الانتماءات السياسية، فتراجعت ولم تعد قوية كالسابق. النقد يلاحقه الاتهام بأنه إما غائب أو حاضر فقط «للشلة» و«الحبايب»؟! - نحن فى حاجة إلى مجلة أو أكثر، للاهتمام بالمتابعات النقدية. توجد مجلات جيدة تقوم بدور مهم مثل «فصول» و«تيارات» و«الثقافة الجديدة» و«إبداع»، لكنها ليست كافية ولا تلاحق الحركة الإبداعية كلها، كما أنها لا تخصص مساحات نقدية كبيرة، ولا مكان فيها لدراسة مستفيضة أو متابعة من عشر صفحات مثلًا. لكن يمكن للمبدع أن يقدم عمله للناقد مباشرة، وأعتقد أن حفلات التوقيع والندوات هى أفضل وسائل تنشيط النقد الآن. ثم أننا فى حاجة إلى جوائز للنقد. كيف تكون فى «قطر» جوائز مهمة للنقد ولا توجد مثلها فى مصر؟! لماذا تنقرض بعض الجوائز بتلاشى سُلطة أو رغبة القائمين عليها، كجوائز «سوزان مبارك» لأدب الأطفال؟ - لا أحب الكلام عن هؤلاء الناس. لكن الجوائز مهمة جدًا بالطبع، ونطالب بها. هات السؤال التالى. ما أهم المشروعات الثقافية التى يحتاجها الوطن والمواطن الآن؟ - الصناعات الثقافية والإبداعية، وعمل خريطة ثقافية لمصر، والمزيد من التبادل الثقافى بين مصر والدول العربية، والترجمة من اللغات الأجنبية وإليها.