عندما زرت المتحف الوطنى للمكسيك فى عام 1985استرعت انتباهى لوحة ضخمة بعرض الحائط تحمل صورا لجنود يرتدون الملابس العسكرية التى ارتداها الجنود المصريون فى القرن التاسع عشر، وكانت ملامحهم مألوفة لدى واتسم لون بعضهم بالسُمرة ولبس آخرون عمامة على رءوسهم. وعندما سألت عن مغزى تلك اللوحة كانت الاجابة بأنها تسجل مشاركة المصريين فى حرب المكسيك. وهى المشاركة التى تعود إلى أعوام 1863- 1867 والتى وثقها الأمير محمد عمر طوسون فى كتاب له بعنوان: بطولات الاورطة السودانية المصرية فى حرب المكسيك، الذى صدر عام 1933 وتضمن قائمة بأسماء الضباط والجنود الذين شاركوا فى الحملة والمدن والقرى التى جاءوا منها. وبلغ من دقة المؤلف فى توثيق تلك الحملة انه كتب مقالا فى جريدة الأهرام قبل إصداره الكتاب بعدة سنوات دعا فيه اسر واقارب الضباط والجنود الذين شاركوا فيها لتزويده بأى معلومات او تفصيلات تكون لديهم. وترجع هذه المشاركة إلى ظروف الصراعات السياسية والحروب الداخلية التى شهدتها المكسيك خلال الفترة 1858 - 1861 بين القوى المحافظة التى أرادت استمرار النظام الملكى بدعم من الكنيسة الكاثوليكية وقوى التغيير التى تأثرت بالثورة الأمريكية وسعت إلى إسقاط الإمبراطور وإقامة نظام جمهوري. وتحقق للثانية الانتصار. لم ترحب النظم الملكية الأوروبية بهذا التطور وقاد نابليون الثالث حملة العداء للنظام الجديد فى المكسيك وكسب إلى صفه بريطانيا وإسبانيا وأبرموا اتفاقا فى أكتوبر 1861وبدأت الدول الثلاث فى الإعداد لاحتلال المكسيك وإعادة النظام الملكى إليها. وبررت تلك الدول مسلكها باعتداءات الحكومة المكسيكية الجديدة على رعاياها ومصالحها وأنها امتنعت عن سداد أقساط الديون المستحقة عليها فى يوليو 1861. وبالفعل ارسلت الدول الثلاث أساطيلها وجنودها واحتلت جزءا كبيرا من سواحل خليج المكسيك، ولكن بسبب ظروف الطبيعة القاسية ودرجات الحرارة المرتفعة وانتشار البعوض ومرض الحمى الصفراء الفتاك سرعان ما انسحبت القوات الإسبانية والبريطانية فى مارس 1862. وظلت القوات الفرنسية بمفردها، التى استطاعت هزيمة الجمهوريين ودخول العاصمة فى يونيو 1863 وتنصيب ماكسميليان إمبراطورا. الأمر الذى واجهته القوى الجمهورية بالرفض لأنه غير مكسيكى ومجرد أداة فى يد فرنسا. وعندما ساء موقف القوات الفرنسية واحتاجت لدعم عسكرى طلب نابليون الثالث من محمد سعيد باشا والى مصر العون. جاء هذا الطلب بحكم العلاقات الودية التى ربطت سعيد باشا بالفرنسيين وربما لاعتقاد نابليون بأن الجنود المصريين سيكونون أكثر قدرة على تحمل جو المكسيك. واستجاب سعيد باشا للطلب وأرسل فى 1863 أورطة «أى كتيبة» تكونت من 453 ضابطا وجنديا من المصريين والسودانيين بقيادة البكباشى جبر الله محمد أفندى ونائبه اليوزباشى محمد ألماظ افندي. غادرت الأورطة ميناء الإسكندرية فى يناير على ظهر السفينة الفرنسية لاسين التى وصلت إلى المكسيك بعد 47 يوما من الإبحار. تعرضت الأورطة فى بداية عملها لعديد من المشكلات. كان منها مشكلة اللغة وعدم المعرفة بالفرنسية، مما دفع قائد الجيش الفرنسى إلى استخدام بعض الجزائريين الذين كانوا فى صفوف قواته للعمل كمترجمين. ومنها أن بنادق المصريين كانت من طراز مختلف عن تلك التى استخدمها الفرنسيون مما أوجد مشكلة فى توفير الذخائر اللازمة لاستخدامها فتم توزيع بنادق فرنسية عليهم. ومنها مرض الحمى الصفراء الذى فتك بالبعض وكان منهم قائد الأورطة البكباشى جبر الله فحل محله نائبه. ومنها نوع الطعام المقدم وكميته وبعد تذليل تلك العقبات شارك أفراد الأورطة بشجاعة وبسالة وضراوة فى عشرات المواجهات والمعارك العسكرية واتسم سلوكهم بالانضباط المحكم والالتزام بالتقاليد العسكرية والتنفيذ الدقيق للخطط واليقظة فى كل الأوقات مما استرعى إعجاب القادة الفرنسيين الذين سجلوا ذلك فى تقارير عديدة رفعت إلى الحكومتين الفرنسية والمصرية حتى إن أحد القادة الفرنسيين وصفهم بأنهم ليسوا رجالا مقاتلين.. إنهم أسود كما سجلت ذلك شارلوت زوجة الإمبراطور التى جاءت من أوروبا لزيارة زوجها وتولى أفراد من الأورطة المصرية مسئولية تأمينها وحمايتها. وقام بعض أفراد الأورطة بعدد من المهام التى شملت حماية طرق القوافل التى حملت الزاد والمؤن العسكرية والمشاركة فى حصار مدينة يويبلا التى كانت ثانى أكبر مدينة فى المكسيك وقتذاك ودخولها فى مايو1863 وتأمين طريق الاتصالات بينها والساحل وحماية عملية إنشاء ومد خط سكة حديد جديد. لذلك كان من الطبيعى أن يكون من بين القوات التى رافقت القائد الفرنسى بازين عند دخوله العاصمة فى يوليو 1863 أعداد من الأورطة المصرية وأن يشاركوا فى العرض العسكرى الذى أقيم بهذه المناسبة. وأشاد القائد الفرنسى بأدائهم وسلمهم شارات صفراء تعلق على الذراع لتمييزهم عن الآخرين وحصل بعضهم على مكافآت مالية. وفى مناسبة أخرى تم تقليد الأمباشى عبدالله حسين بميدالية تقديرا لبسالته. وفى عام 1865 وضعت الحرب الأهلية الأمريكية أوزارها وأبدت الحكومة الامريكية دعمها للجمهوريين وطلبت من فرنسا سحب قواتها وأظهرت تصميمها فى هذا الشأن بتحريك بعض قواتها فى 1866 صوب الحدود المكسيكية، فقرر نابليون الثالث سحب قواته تاركا ماكسيمليان يلاقى مصيره فتمت محاكمته وإعدامه فى يونيو من العام التالى. غادرت الأورطة المصرية المكسيك فى فبراير 1867 وتوقفت فى فرنسا ووصلت إلى باريس فى أبريل، حيث قامت بعرض عسكرى شهده نابليون الثالث وشاهين باشا الذى تولى نظارة الجهادية «وزارة الحربية» فى عام 1879- وقام الامبراطور بتوزيع أنواط الشرف العسكرية وصافح قائد الحملة محمد ألماظ أفندى وقلده وساما عسكريا رفيعا. وفى الشهر التالى وصلت الأورطة إلى ميناء الإسكندرية وتم تنظيم استقبال رسمى وشعبى كبير لها كان عدد العائدين 316 من أصل 453. وأصدر الخديو إسماعيل قرارات بصرف معاشات لأرامل وعائلات شهداء الجيش المصرى وترقية الجنود والضباط ورُقى محمد ألماظ إلى رتبة الأميرالاي، وفى 28 مايو تم تنظيم عرض عسكرى حضره الخديو وكبار المسئولين فى باحة قصر رأس التين. تلك صفحة من صفحات تاريخ الجيش المصرى فى القرن التاسع عشر، التى تضمنت مشاركة قواته فى حروب فى اليونان والقرم وشبه الجزيرة العربية والشام والمكسيك التى وضعت الأساس لتقاليد عسكرية محكمة مازالت مستمرة حتى اليوم. لمزيد من مقالات د. على الدين هلال