الإرادة تصنع المعجزات، والتحدى سيرة حياة لمن أراد الانتصار على عجزه وتحقيق المعجزات. ولعل الدكتور طه حسين نموذج يحتذى ويضرب به الأمثال فى الصبر والمثابرة وقوة الإرادة والتحدى ليتحول من عاجز كفيف إلى معجزة يدرسها التاريخ! فبعد مرور عشرات السنين على رحيل طه حسين لا يزال اسمه يتردد فى الجامعات والندوات الثقافية وفى مؤتمرات اليونسكو والمحافل الدولية. ولاتزال كتبه يعاد طبعها وتلقى الإقبال من الأجيال الجديدة, وبحكم ثقافته وتجاربه الزاخرة بالمواقف الصعبة ومكائد الكارهين وتفوقه عليها صار متفردا وبلغت شهرته ومكانته إلى أن أصبح واحدا من عظماء العالم, مما جعل النقاد يقولون إن طه حسين أديب ومفكر عابر للأجيال. كتاب «حياة طه حسين من عاجز إلى معجزة» للكاتب رجب البنا الصادر عن المكتبة الأكاديمية والذى يتزامن مع الذكرى الرابعة والعشرين بعد المائة لميلاده- يتناول الجانب الانسانى فى مسيرة حياة عميد الأدب العربى د. طه حسين, هذا الرجل الذى تحدى عجزه وأزماته فى ملحمة مليئة بحروب الصراعات القاتلة لم يستسلم لليأس, حياته دراما مثيرة مليئة بالمحن من الطفولة وحتى آخر العمر, فيها الحزن والفرح وفيها الهزيمة والانتصار, وفيها المكائد والمعارك, ولعل أصدق وصف لطه حسين ماقيل عنه إنه «قاهر الظلام». حيث طفولته لم تكن تنبئ عن مستقبله، كان ترتيبه السابع من بين ثلاثة عشر من الأبناء. ولد طه حسين فى نوفمبر عام 1889 وفى عام 1902 التحق بالأزهر للدراسة الدينية والاستزادة من العلوم العربية, فحصل فيه ما تيسر من الثقافة, ونال شهادته التى تخوله التخصص فى الجامعة, لكنه ضاق ذرعاً بها. فكانت الأعوام الأربعة التى قضاها فيها, - وهذا ما ذكره هو نفسه - وكأنها أربعون عاماً وذلك بالنظر إلى رتابة الدراسة وعقم المنهج, وعدم تطور الأساتذة والشيوخ وطرق وأساليب التدريس, وعندما بدأت الدراسة فى الجامعة المصرية عام 1908 صمم طه حسين على الالتحاق بها على الرغم من وجود مشكلتين كانت كل منهما كفيلة بدفعه إلى اليأس من قدرته على تحقيق حلمه لكنه لم يستسلم وتغلب عليهما, الأولى عدم قدرته على دفع المصاريف والثانية أنه منتظم فى الدراسة فى الأزهر ولا يستطيع تركها. عميد المؤرخين العرب ومن يتتبع بالتفصيل كيف استطاع طه حسين تكوين عقله وثقافته فسوف يجد أنه عاش حياته كلها يقرأ ويبحث ويتعلم وكأنه يطبق قول سقراط «أنا لا أعلم وأريد أن أتعلم», فدرس العلوم العصرية, والحضارة الإسلامية، والتاريخ والجغرافيا, وعدداً من اللغات الشرقية كالحبشية والعبرية والسريانية, وظل يتردد خلال تلك الحقبة على حضور دروس الأزهر والمشاركة فى ندواته اللغوية والدينية والإسلامية. ودأب على هذا العمل حتى سنة 1914. وهى السنة التى نال فيها شهادة الدكتوراه وموضوع الأطروحة كان: «ذكرى أبى العلاء» ما أثار ضجة فى الأوساط الدينية, وفى ندوة البرلمان المصرى إذ اتهمه أحد أعضاء البرلمان بالمروق والزندقة والخروج على مبادئ الدين الحنيف. طه حسين كان يؤمن بأنه صاحب رسالة وأن رسالته العمل على تجديد الفكر والثقافة وحماية حرية الرأى والدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي, وكان دائما يبدو متماسكا واثقا من نفسه مرفوع الرأس حتى فى الأوقات التى يواجه بها أزمات وبعضها يعجز عن تحملها البشر، وفى اللحظات التى يسيطر عليه الحزن واليأس لم يكن أحد يلحظ دموعه إلا زوجته التى كان يعتبرها جزءا منه لا يكتمل وجوده إلا بها, فقد تعرض فى مارس عام 1932 إلى ظلم قاس غير مجرى حياته حينما عقد مجلس الوزراء جلسة خاصة لمناقشة الأزمة التى تصاعدت بسبب كتابه فى «الشعر الجاهلى» وقرر المجلس برئاسة اسماعيل صدقى فصل طه حسين من الخدمة، وبذلك فقد وظيفته كأستاذ مرموق فى الجامعة. كان طه حسين الجسر الذى حقق التواصل بين الثقافة العربية القديمة والحديثة وبين الثقافة الأوروبية والفرنسية, وقد أشار مؤرخو الأدب كثيرا إلى أثر الثقافة الفرنسية فى فكر وأدب طه حسين الذى تأثر بها منذ إقامته فى باريس للدراسة فى جامعاتها وعلى أيدى أكبر الفلاسفة والعلماء والنقاد فى عصره ويعترف كبار الكتاب الفرنسيين بأنه أسهم فى التأثير فى الثقافة الفرنسية، وجعل هؤلاء الكبار يتعرفون على عظمة الإسلام وأصالة الثقافة العربية. ويعود الفضل للدكتور منجى الشملى مؤسس الجامعة التونسية فى إلقاء الضوء على جانب لم يركز عليه الكثير من دارسى طه حسين وهى أنه إذا كان طه حسين «عميد الأدب العربي» بحق كما كان معروفا، فإنه إلى جانب ذلك «عميد المؤرخين العرب». غير أن أهم جانب من جوانب شخصيته وسرا من أسرار نجاحه فى الوصول إلى المكانة التى وصل إليها, هى قصة حبه الكبير للفتاة الفرنسية طالبة السوربون المثقفة الخجولة السيدة سوزان بريسو التى صارت زوجته ورفيقة كفاحه وتحملت معه أيام النجاح والفشل ولحظات السعادة والشقاء ولم تفارقه لحظة من عمره وكان آخر ما فعله وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة أن أمسك يدها وقبلها حبا وعرفانا بالجميل حيث وافته المنية فى أكتوبر عام 1973.