مصر حاضرة فى فرنسا بصورة لا تجعلنى أشعر فيها بالغربة التى أشعر بها فى بلاد أخري. والفضل للثقافة التى تقرب بيننا وبين الفرنسيين، الثقافة فتحت مصر أمام الفرنسيين الذين استطاعوا أن يكتشفوا تاريخها قبل غيرهم. وباستطاعتنا أن نقول ونحن نتحدث عما قام به شامبليون هو وغيره من علماء الحملة الفرنسية فى الكشف عن مصر القديمة إنهم عرفوا تاريخنا قبلنا وأننا نعرفه بفضلهم. وباستطاعتنا من ناحية أخرى أن نقول إننا اكتشفنا فرنسا التى لم تكن مجهولة بالطبع، لكنها لم تكن معروفة لنا قبل أن يتوافد عليها أعضاء البعثات المصرية، ولم يكن ينظر لها أحد من الوجهات التى نظرنا بها إليها، ولم يلخصها أحد كما لخص الطهطاوى باريز فى كتابه «تخليص الإبريز» وأعضاء البعثات الثقافية فتحوا لنا هذا العالم ووجدوا فيه ليس فقط ما حصلوه من علوم وفنون حديثة، وإنما القيم الانسانية التى تحدثوا عنها ووجدوا فيها أصلا مشتركا بيننا وبين الفرنسيين ونحن بالرجوع إلى هذا الأصل المشترك نجد أنفسنا سابقين، فنحن إذن أولى بأن نكون لاحقين، أى بأن نواصل ما بدأناه وما أضافه غيرنا إليه. على هذا النحو نفهم علاقتنا بالآخرين، وليس كما يتصور البعض الذين يعتقدون أن كل اتفاق بيننا وبين الغربيين تقليد لايحاربونه بالدعوة إلى التجديد، وإنما يحاربونه بالعودة الى الوراء وتقليد الأسلاف القدماء. وأنا أريد أن أحدثكم عن هذه المسألة من خلال الحديث عن كنوز توت عنخ آمون التى يستعد الفرنسيون لاستقبالها فى معرض يفتتح فى مارس القادم. توت عنخ آمون مصرى أبا عن جد، وكنوزه تراث مصرى خالص. لكن توت عنخ آمون ضاع فى ماضينا السحيق الذى نسيناه وتخلينا عنه وتنكرنا له حتى جاء عالم المصريات البريطانى هوارد كارتر ليكتشف المقبرة ويشغل بها الدنيا ويعيد توت عنخ آمون لحياة جديدة فى الذاكرة الوطنية وفى الضمير الإنساني، ثم ليأتى العالم ليقيم المعارض لآثاره فى أمريكا وآسيا وأوروبا، خاصة فى فرنسا التى شاهدت معرضا لهذه الآثار من قبل، وهى تستعد الآن كما قلت لتشاهد معرضا جديدا له. وأنا لا أبالغ حين أتحدث عما يقوم به الفرنسيون استعدادا لافتتاح المعرض القادم. فبطاقات الدخول تحجز من الآن. ويوم الخميس الماضى بداية من الساعة العاشرة صباحا أصبح فى استطاعة الجمهور أن يشترى أماكن ليرى «كنز فرعون» الذى لن يفتتح الا يوم 23 مارس من العام القادم، ومن أجل هذا اليوم يستخدم الجمهور مختلف طرق الاتصال لتسجيل الأسماء ضمن الجمهور المشاهد وشراء بطاقات الدخول. وهذا ليس أول معرض لآثار توت عنخ آمون يراه الفرنسيون. لقد سبقه معرض آخر أقيم فى عام 1967 وهو يعتبر إلى الآن حدثا تاريخيا استطاع أن يجمع جمهورا بلغ عدده مليونا ومائتى ألف زائر. وهو رقم قياسى إذا قورن بجمهور المعارض عامة، وبلغ عدد القطع الأثرية التى عرضها 45 قطعة، من بينها 25 قطعة ستعود الى باريس ليشاهدها الجمهور من جديد فى معرض الربيع القادم الذى سيكون أكبر تظاهرة تقام لكنوز توت عنخ آمون، إذ تعرض فيه 150 قطعة منها خمسون قطعة تخرج من مصر لأول مرة ويضيف اليها متحف اللوفر قطعة تعد من الروائع وهى تمثال للإله آمون حارس توت عنخ آمون. رحلة جديدة تتم بموافقة من المتحف المصرى الجديد الضخم الذى سنفتتحه عام 2022 فى الذكرى المئوية الأولى لاكتشاف مقبرة توت عنخ آمون بواسطة العالم البريطانى هوارد كارتر. ومن أجل هذه الرحلة الجديدة قام المصريون بترميم القطع التى تعرضت للتلف على أيدى بعض الغوغاء الذين اندسوا فى ثوار يناير وبلغ عدد هذه القطع التالفة أكثر من خمسة آلاف وثلاثمائة قطعة. والحقيقة أن الآثار المصرية لاتتعرض للتلف على أيدى الغوغاء واللصوص والمهربين وحدهم، وإنما تتعرض لهذا أيضا على أيدى بعض الموظفين الذين يكومون الروائع على حيطان متحف القاهرة ولايقدمونها بالصورة التى تليق بها وبنا. ولهذا يقول البعض ان رؤية هذه الروائع فى باريس فرصة لن تتكرر، لأنها ستلقى فى المعرض القادم معاملة أفضل تتيح للزائر أن يراها على حقيقتها مهما يكن حجمها. التماثيل الضخمة، والصور، والقفازات المصنوعة من الكتان التى كان يستعملها توت عنخ آمون وهو يمتطى فرسه، وجعبة السهام، مع مشاهد الصيد والحرب.. فضلا عن الدراسات والاكتشافات الجديدة التى أضيفت الى كنوز هذا الفرعون الذى نسيناه طويلا حتى رد العالم له اعتباره. وفى هذا يقول بعض الذين تحدثوا عنه إن سيرته تتلخص فى كلمتين اثنتين: البؤس، والمجد! فرنسا إذن تستعد من الآن لتستقبل صاحب الجلالة توت عنخ آمون وتشاهد كنوزه فى الربيع القادم. وقد عرفت ما عرفته عن هذا المعرض وأنا هنا فى باريس منذ أسبوعين وقرأت ما كتبته عنه الصحف، ولم أسمع وأنا فى القاهرة ولم أقرأ شيئا عنه كأنه لايخصنا ولايهمنا، مع أنه يهمنا أكثر مما يهم غيرنا، لأنه بالنسبة لنا ليس بضاعة عابرة قادمة من الخارج، وإنما هو حضارتنا التى بنيناها، أقصد بالطبع أجدادنا. لكن الفرنسيين يرون ولهم الحق أن أى عمل له قيمة انسانية هو ملك للانسانية كلها وليس لمن صنعوه وحدهم. لأن الثقافة بطبيعتها خبرة متداولة وراحلة دائما ومؤثرة ومتأثرة بغيرها من الثقافات. وأنت تفتح الآن أى صحيفة فرنسية فتجد العالم كله، لا أخباره فقط، بل أفكاره أيضا وأسئلته وقضاياه. والذين يكتبون فى فرنسا عن مصر لايكتبون عن ماضيها القديم فقط بل يكتبون أيضا عن حاضرها الراهن. وفى العدد الأخير من المجلة الأدبية الجديدة «لونوڤو مجازين ليترير» دراسة مطولة عن نبى الاسلام شارك فيها عدد من الدراسين والمستعربين، ونشرت بعنوان «محمد الحقيقي». وربما حدثتكم عن هذه الدراسة بعد أن أنظر فيها. لمزيد من مقالات ◀ بقلم أحمد عبدالمعطى حجازى