ندما جاء السادات حدث الانقلاب الكامل على كل السياسات الناصرية، ثقافيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا وعلى رأسها الحرية الإبداعية النسبية، مُضافًا إليها الانقلاب على الاتجاه الاشتراكى الناصرى فى العدالة الاجتماعية، وتحويل الاقتصاد من اقتصاد موجَّه إلى اقتصادٍ مفتوحٍ يساعد على تأسيس رأسمالية غير وطنية، لا تُراعى مصلحة الوطن بقدر ما تهدف إلى الربح وحده حتى ولو كان على حساب الوطن. وكان من الطبيعى أن تتحالف قوة الدولة الجديدة مع التيارات الإسلامية أو تيارات الإسلام السياسى بوجه عام، وترى فيها حليفًا قويًّا لمواجهة الناصريين واليساريين والقوميين كافة. ........................ وكان هذا التحالف نقيضًا لما كانت عليه علاقة عبد الناصر بالسُّلطة الدينية المُمثلة فى الأزهر، فقد تحالف السادات مع سلطة دينية مغايرة للأزهر وأكثر تشددًا منه وأكثر جمودًا وتخلُّفًا فى آن. ولم يكن التحالف بين ندَّينِ فحسب، بل أعطى السادات لحلفائه ما جعلهم فى وضع أقوى منه على مستوى التأثير الشعبى أو على مستوى العلاقة بجماهير الشعب المصرى التى ازدادت معاناتها من الفقر والأزمات الاقتصادية وغياب التعليم الحديث فى مقابل انحدار الوعى بما أدى إلى شيوع الأفكار السلفية الجامدة جنبًا إلى جنب ترييف المدينة، وانحدار الذوق الأدبى، وتغييب العقل النقدى، وذلك بما يتيح للأفكار المتشددة دينيًّا النفاذ والتأثير على وعى المجتمع بأكمله. هكذا نشأت فئات من المجتمع مؤدلجة دينيًّا على نحوٍ متشددٍ، وتحوَّلت جماعة الإخوان المسلمين من تيار مؤسس إلى تيارات فرعيَّة متولِّدة فى السبعينيات نتجت أو ظهرت وانتشرت فى الجامعات الإقليميَّة، وساعد على نشرها رجال السادات الذين أتاحوا لها من الإمكانات ما جعلها تنافس سُلطة السادات نفسه، وتفرض عليه - من خلال مجلس الشعب - ما يؤكد مصالحها الجديدة سواء على مستوى «أسلمة الدولة» فى الدستور و«أسلمة القوانين» فى مجلس الشعب من ناحية موازية، فى موازاة الانفتاح الاقتصادى المتوحش الذى خلق فئات جديدة متحالفة مع تيارات التشدد الدينى الجديدة. وكان هذا يعنى تحالفًا ناشئًا بين رأس المال الانفتاحى والجهالة الثقافيَّة التى تقترن بتشدد دينى شعبوى. هذا التشدد الدينى الشعبوى ازداد بالتحالف الذى تم بين نظام السادات من ناحية، والسلفية الوهابية من ناحية موازية. وقد تزايدت النتائج المترتبة على هذا التحالف بقيام الثورة الإسلامية فى إيران برعاية آية الله روح الله الخمينى فى يناير 1979. والنتيجة انفتاح الطريق أمام رجعية دينية لا حدود لتشددها. وفى هذا السياق ظهرت دور نشر مصرية بأموال سعودية، وبدأنا نسمع عن مطبوعات بدعم نفطى، ونرى مكتبات على امتداد مصر مدعومة بأموال «البترو – إسلام» كما كان يصفه المرحوم فؤاد زكريا. وأصبح الطريق مُتاحًا للعداء الكامل للنزعات الليبرالية الوفدية التى تنطوى عليها كتابة نجيب محفوظ من ناحية، أو كتابة أساتذته الذين أرادوا عقلنة الإسلام من ناحية ونفى جوانبه الخرافية أو التقليدية الجامدة فى مقابل إبراز نزعته العقلانية من ناحية موازية، كما فعل طه حسين وأشباهه من أجيال تلامذته. وهنا ظهرت شخصيات عُرفت بكتاباتها المُعادية كل العداء للاستنارة أو لما َسَمَتهُ ب «العلمانية الكافرة»، فانقلب أنور الجندى من مادحٍ لطه حسين قبل السبعينيات إلى واصف لطه حسين بالكفر بعد السبعينيات، وانقلب الشيخ محمد متولى الشعراوى من شاعرٍ مادح لطه حسين عندما كان موجودًا فى السعودية فى الخمسينيات، إلى متأسلم مُعادٍ لكل أفكار طه حسين التى سبق أن مدحها فى الخمسينيات عندما زار طه حسين السعودية سنة 1955، وتحوَّل خالد محمد خالد من صاحب كتب من مثل: «مواطنون لا رعايا» أو «دفاعًا عن الديموقراطية» أو «من هنا نبدأ» إلى كاتب يتنكَّر لمبادئه القديمة بعد أن أُنشِئت له دار نشر خاصة ومكتبة تجارية يمتلكها، فانصرف إلى الكتابة عن «الإسلام الذى ينادى البشر» أو «لقاء مع الرسول» إلى آخر كل ما يبدو تَبَرُّؤًا من كتاباته الثورية القديمة. وأسهم ذلك كله فى إشاعة المناخ المُعادِى كل العداء للدولة المدنية فى ارتباطها بالديموقراطية، وفى الوقت نفسه العداء للدولة المدنية فى علاقتها بالعلمانية التى لم تكن – ولا تزال - تعنى الكفر، وإنما تعنى الفصل بين الدين والدولة فحسب. وكيف كان يمكن للإسلام السياسى المتشدد أن يتقبَّل أى حديث عن العدالة الاجتماعية أو الديموقراطية السياسية، بعيدًا عن الإسلام الذى روَّجوا له بوصفه دينًا ودولة فى مناخ صنعوه مع قيادة سياسية تحميهم وتروِّج لزعمهم الجديد بقيام «صحوة إسلامية»؟! وفى هذا المناخ لم يستطع السادات ضبط التوازن بينه والقوى التى أعانها على الصعود، والتى زايدت على إسلامه، فجعلت منه عدوًّا للإسلام نفسه، وقامت باغتياله فى السادس من أكتوبر سنة 1981. وعندما تولى مبارك الأمر حاول أن يمسك العصا من الوسط، وأن يعيد الأمور إلى نِصابها محاولًا مهادنة هذه الجماعات، وإحداث توازن بينها وبين الجماعات المعارضة، وعقد مصالحة وطنية وقومية تجمع ما بين الفُرَقاء من الإخوة الأعداء فى مصر، وفى الوطن العربى على السواء. ولكنه لم يفلح فى نهاية الأمر. وفى هذا السياق التاريخى بتحولاته المتغايرة جذريًّا جاءت سنة 1988 بعد سبع سنوات تقريبًا من حكم مبارك لمصر، وإذا بالمفاجأة المفرحة تحدث، ويحصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل فى الأدب سنة 1988، وإذا بحيثيات الجائزة تشير إلى «أولاد حارتنا». ومن المفارقات الدالة أن المؤلف الهندى الأصل البريطانى الجنسية، سلمان رشدى، كان قد أصدر روايته «آيات شيطانية» سنة 1988 فى العام نفسه الذى حصل فيه نجيب محفوظ على جائزة نوبل. وإذا بالخمينى يصدر فتوى بهدر دم سلمان رشدى وكل مترجمى كُتبه. ولا تزال هذه الفتوى متواصلة إلى اليوم. وكان من الطبيعى أن تصل مجموعات الإسلام السياسى المتشددة فى مصر بين «آيات شيطانية» و«أولاد حارتنا»، فتعود «أولاد حارتنا» إلى الأضواء من جديد، وتتحوَّل بالفعل من رواية عادية إلى «رواية مُحرَّمة» بعد أن لم تكن رواية مُحرَّمة قبل ذلك، وطَبَعاتها البيروتية متاحة لكل قارئ. ويبدأ التكفير المُنظَّم لنجيب محفوظ، أولًا من مشايخ الأزهر الُمتشددين، أمثال: الشيخ عبد الحميد كشك الذى أصدر كتابًا بعنوان: «كلمتنا فى الرد على أولاد حارتنا»، وقد صدر الكتاب عن دار «المختار الإسلامى للطبع والنشر». وهى دار مدعومة من الخارج، وأن يكتب عبد العظيم المطعنى كتابًا بعنوان: «جوانيّات الرموز المُستعارة لكتاب أولاد حارتنا فى نقض التاريخ الدينى النبوى»، وقد صدر عن مكتبة وهبة فى القاهرة سنة 1996، وكتاب: «الطريق إلى نوبل 1988 عبر حارة نجيب محفوظ» للدكتور محمد يحيى ومعتز شكرى، وهو صادر عن الدار المصرية للنشر والتوزيع بالقاهرة سنة 1989. وكتاب: «نجيب محفوظ بين الإلحاد والإيمان» تأليف ديب على حسن، وأخيرًا كتاب الدكتور سيد فرج: «أدب نجيب محفوظ وإشكالية الصراع بين الإسلام والتغريب». اللافت للانتباه أنه لم يصدر كتاب واحد أو حتى مقال منشور، يشير إلى «أولاد حارتنا» أو تكفيرها طوال السبعينيات أو حتى النصف الأول من الثمانينيات، فالهجوم لم يبدأ إلا بعد حصول نجيب محفوظ على «نوبل» والإشارة فى الحيثيات إلى رواية «أولاد حارتنا» على وجه التحديد، وكان ذلك فى سنة 1988. وبعدها مباشرة بدأ الهجوم على «أولاد حارتنا» فى ذاتها من ناحية، وفى علاقتها ب «آيات شيطانية» لسلمان رشدى من ناحية ثانية. هكذا كتب محمود الكردي: «آيات بينات للشيطان سلمان رشدى»، ورفعت سيد أحمد: «آيات شيطانية: جدلية الصراع بين الإسلام والغرب» عن الدار الشرقيةبالقاهرة سنة 1989، وتواصل الربط بين روايةٍ أهدر الخمينى دم صاحبها، فى سياق أدى إلى إهدار الجماعة الإسلامية دم نجيب محفوظ، صاحب «أولاد حارتنا» التى أصبحت ملعونة منذ مطلع التسعينيات فحسب. ما الذى يعنيه ذاك؟ إنه يعنى ببساطة أن ارتفاع الهجوم الدينى المتشدد على نجيب محفوظ وتكفيره لم يحدث إلا منذ نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، بعد تحولات جذرية فى المجتمع المصرى كله، وبعد حصول محفوظ على جائزة «نوبل» أولًا، وبعد الإشارة إلى «أولاد حارتنا» فى حيثيات حصوله على الجائزة ثانيًا. وبعد أن تحوَّلت التيارات الإسلامية إلى جماعات تكفيرية تغتال المفكرين والكُتّاب، ومنهم فرج فودة الذى اغتيل بأيدى الجماعة الإسلامية فى الثامن من يونيو سنة 1992. ولم يكن من الغريب – والأمر كذلك - أن تُصدر الجماعة الإسلامية أمرها لأحد أبنائها باغتيال نجيب محفوظ فى الخامسة من عصر يوم الجمعة 14 أكتوبر سنة 1994، فى تصاعد أحداث اغتيال المفكرين والكُتّاب الذين رأت فيهم الجماعة الإسلامية أعداء للإسلام. والحق أن محاولة اغتيال نجيب محفوظ كانت نتيجة حتميَّة لكل الكتب والمقالات التى نُشرت فى تكفير نجيب محفوظ، وللتيارات السلفية المتشددة المنتشرة على امتداد العالم العربى، والتى كانت تعمل - ولا تزال - تحت مظلة إيرانيَّة ووهابية نفطية لمواجهة أى مَدٍّ علمانى أى أية دعوةٍ إلى الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة الصاعدة بجناحى الحرية الليبرالية والعدالة المدنية. ومن المؤكد أن محمد شعير قد أهدر كنزًا مليئًا بالمعلومات والأسباب التى جعلت من أولاد حارتنا «رواية محرَّمة»، وذلك عندما تجاهل صحيفتي: «الحقيقة»، و»النور» التى كان من نجومهما: الشيخ محمد الغزالى، والكاتب مصطفى عدنان (وهو الاسم الرمزى للكاتب رائد عطار الذى كان كاتبًا له شأنه فى جريدة الأهرام)، وهو واحد من الذين تخصصوا فى كتابة مقالات تكفيرية فى أدب نجيب محفوظ بوجه عام و«أولاد حارتنا» بوجه خاص. وهى مقالات غزيرة يمكن جمعها الآن فى كتاب كامل فى تكفير رواية «أولاد حارتنا» وغيرها من روايات نجيب محفوظ. فضلا عن مجلتي: «الاعتصام» الناطقة بصوت جماعة الإخوان المسلمين فى مرحلتها الأولى، و«الدعوة» التى سبقت الإشارة إليها. ومن المؤكد أن هذه الدوريات وما يماثلها من مطبوعات على وجه التحديد هى التى أكدت تحريم رواية «أولاد حارتنا» وجعلت منها «رواية محرَّمة»، ولذلك فهى تنطوى على أهمية أكبر بكثير من الأهمية التى جعلت محمد شعير يقصر انتباهه على ما هو معروف من صحافة مصرية رسمية. أما نقطة التقصير الأخرى فى جمع المعلومات، فهى ما يتصل بتوسيع الدائرة وإمكان مد عين الاهتمام إلى ما يماثل هذه الدوريات التكفيرية إلى أشباهها الممتدة من المحيط إلى الخليج، والناطقة بصوت الجماعات التى ازدادت علوًّا فى الصوت بعد هزيمة 1967، وظهور ما أصبح يسمَّى باسم: «الحل الإسلامى» تارة، أو «الصحوة الإسلامية» تارة أخرى. ويبقى أخيرًا أن أشير إلى أن الفصل الأخير الذى كتبه محمد شعير عن رواية «اللص والكلاب»، وهو فصل يبدو خارجًا عن السياق العام للكتاب، وما كان أغنى محمد شعير عنه لو كان قد تركه إلى ما هو أكثر إفادة وارتباطًا بالموضوع وكشفًا عن كل ما لا نزال فى حاجة إلى معرفته من أسرار الاتجاهات التكفيرية التى لم تكتفِ بتحريم رواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ، بل تجاوزت ذلك إلى محاولة اغتياله وكادت أن تحقق غرضها لولا عناية الله وحمايته للكاتب الذى رفع راية العرب والمسلمين - فى عالم الأدب - وجعلها خفاقة تؤْذِنُ بشروق شمس النور والعجائب فى المستقبل الذى ظل نجيب محفوظ يحلم به. أما عن الملحق الوثائقى الذى ذيَّل به محمد شعير الكتاب فما كان أغنانا عنه؛ لأننا لا نزال، ولا يزال القراء فى حاجة إلى ملحق من نوع آخر يجعلنا أكثر معرفة بكل هذه المصادر والمراجع والكُتّاب الذين جعلوا من رواية «أولاد حارتنا» رواية مُحرَّمة بحق. ويقينى الذى لا أزال عليه أن محمد شعير فى الطبعة القادمة لكتابه سوف يشبع رغبة القراء فى أن يعرفوا المسكوت عنه من المعرفة بالكتابات المسكوت عنها – عمدا أو سهوا- وما أكثرها من الكتابات التى جعلت من رائعة نجيب محفوظ «أولاد حارتنا» – للأسف والجهالة حتى بالدين الإسلامى السمح - رواية مُحرَّمة. لمزيد من مقالات جابر عصفور