محمود فوزي وزير الشؤون النيابية: الحكومة على استعداد دائم للتعاون مع مجلس الشيوخ    الوطنية للانتخابات: تفعيل التسكين المبدئي وتوحيد الأسرة في مقر انتخابي واحد لتشجيع الناخبين    "الشربيني" يوجه بالعمل على رفع كفاءة البوابات واللافتات الإرشادية والميادين بكل مدينة والاستغلال الجيد لقطع الأراضي الشاغرة    تحذير رسمي بعد زيادة الوقود.. شعبة الخضار: لا مبرر لرفع الأسعار أكثر من 50 قرشًا للكيلو    موعد صرف معاشات نوفمبر 2025 بعد تبكير مرتبات أكتوبر.. اعرف التفاصيل الكاملة    اندلاع حريق في ناقلة غاز طبيعي مسال قبالة اليمن    إصابة فلسطيني بالرصاص الحي للاحتلال الإسرائيلي في شمال القدس    هدف قاتل يحرم بورنموث من صدارة الدورى الإنجليزي بالتعادل أمام بالاس    بلدغة أراوخو.. برشلونة يخطف فوزا قاتلا أمام جيرونا ويعتلي صدارة الليجا    الرماية المصرية تتألق في أثينا.. أحمد توحيد وماجي عشماوي رابع العالم    تعليم الغربية تحدد آليات اختبار الطلاب على مدار العام الدراسى    ننشر أسماء 5 أشخاص أُصيبوا في مشاجرة بقرية أبوسلطان التابعة لمركز فايد في الإسماعيلية    حالة الطقس غدًا الأحد 19 أكتوبر 2025: أجواء حارة نهارًا وشبورة كثيفة صباحًا على بعض المناطق    حوار| أحمد فؤاد: قدمت عرض «أم كلثوم» على خطى مسرح برودواى    يسرا والهام شاهين ولبلبة وهانى رمزى على ريد كاربت فيلم أب أم أخت أخ بالجونة.. صور    إقبال كبير على عروض الثقافة بممشى أهل السويس    مدير المنظمات الأهلية الفلسطينية: تشغيل المخابز بعد توقف أشهر بسبب الحصار    «مدير صحة الجيزة» يتفقد مستشفى البدرشين المركزي لمتابعة انتظام العمل والخدمات الطبية    10 أدوية لا يجب التوقف عن تناولها من تلقاء نفسك    يلا شوت بث مباشر.. مشاهدة آرسنال × فولهام Twitter بث مباشر دون "تشفير أو فلوس" | الدوري الإنجليزي الممتاز 2025-26    أكرم القصاص: نأمل أن يكون البرلمان الجديد معبرا عن هموم ومصالح المصريين    الفلبين تجلي عشرات الآلاف خوفًا من العاصفة "فينغشين"    الصحة تختتم البرنامج التدريبي لإدارة المستشفيات والتميز التشغيلي بالتعاون مع هيئة فولبرايت    يلا شووت بث مباشر.. الهلال VS الاتفاق – مواجهة قوية في دوري روشن السعودي اليوم السبت    الدفاع الروسية: السيطرة على بلدة بليشييفكا بدونيتسك والقضاء على 1565 جنديًا أوكرانيًا    محافظ الشرقية يثمن جهود الفرق الطبية المشاركة بمبادرة "رعاية بلا حدود"    قطاع الأمن الاقتصادي يضبط 6630 قضية متنوعة خلال 24 ساعة    موعد مباراة الأخدود ضد الحزم في الدوري السعودي والقنوات الناقلة    اليوم الرسمي ل بدء التوقيت الشتوي 2025 في مصر بعد تصريحات مجلس الوزراء.. (تفاصيل)    أحمد مراد: نجيب محفوظ ربّاني أدبيًا منذ الصغر.. فيديو    طريقة عمل الفطير الشامي في البيت بخطوات بسيطة.. دلّعي أولادك بطعم حكاية    تعرف على مواقيت الصلوات الخمس اليوم السبت 18 أكتوبر 2025 بمحافظة بورسعيد    مرشح وحيد للمنصب.. «الشيوخ» يبدأ انتخاب رئيسه الجديد    الرئيس السيسي يستقبل رئيس مجلس إدارة مجموعة «إيه بي موللر ميرسك» العالمية    رئيس جامعة القاهرة: مصر تمضي نحو تحقيق انتصارات جديدة في ميادين العلم والتكنولوجيا    ما هو حكم دفع الزكاة لدار الأيتام من أجل كفالة طفل؟.. دار الإفتاء توضح    مركز الأزهر العالمى للفتوى الإلكترونية يوضح 7 فضائل لإطعام الطعام.. اعرفها    مصرع سيدة وإصابة 10 أشخاص في انقلاب سيارة ميكروباص بوسط سيناء    ضبط لحوم غير صالحة وتحرير 300 محضر تمويني خلال حملات مكثفة بأسيوط    تشييع جثمان الطفل ضحية صديقه بالإسماعيلية (صور)    الدويري: خروج مروان البرغوثي سيوحد حركة فتح ويمنح الموقف الفلسطيني زخمًا    موعد مباراة المغرب ضد الأرجنتين والقنوات الناقلة في نهائي كأس العالم للشباب 2025    نجوى إبراهيم عن تطورات صحتها بعد الحادث: تحسن كبير واستكمل العلاج بمصر    100 مُغامر من 15 دولة يحلقون بمظلاتهم الجوية فوق معابد الأقصر    منافس بيراميدز المحتمل.. المشي حافيا وهواية الدراجات ترسم ملامح شخصية لويس إنريكي    مجلس أمناء جامعة بنها الأهلية يوافق على إنشاء 3 كليات جديدة    عبير الشرقاوي ترد على تجاهل ذكر والدها: نقابة المهن خسرت كتير    البنك الأهلي ضيفا ثقيلا على الجونة بالدوري    مواقيت الصلاة اليوم السبت 18 أكتوبر 2025 في محافظة المنيا    زراعة 8000 شتلة على هامش مهرجان النباتات الطبية والعطرية في بني سويف    فيديو.. منى الشاذلي تمازح حمزة نمرة: أنت جاي تتنمر عليا    رئيس وزراء مالطا يشيد بدور مصر في وقف حرب غزة خلال لقائه السفيرة شيماء بدوي    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم السبت 18 أكتوبر 2025    رد صادم من متحدثة البيت الأبيض على سؤال بشأن قمة ترامب وبوتين يثير جدلًا واسعًا    أسعار الفراخ اليوم السبت 18-10-2025 في بورصة الدواجن.. سعر كيلو الدجاج والكتكوت الأبيض    هل يجوز للمريض ترك الصلاة؟.. الإفتاء تُجيب    تفكك أسري ومحتوى عنيف.. خبير تربوي يكشف عوامل الخطر وراء جرائم الأطفال    حكم التعصب لأحد الأندية الرياضية والسخرية منه.. الإفتاء تُجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤى نقدية
سيرة الرواية المُحرَّمَة
نشر في الأهرام اليومي يوم 23 - 11 - 2018

أنا من الذين يؤمنون بأن نجيب محفوظ هو القمة التى وصلت إليها الرواية العربية فى زمنها الحديث، وأن نجيب محفوظ لم يصل إلى هذه القمة إلا بالعمل الدائم والجهد الصبور والقراءات الواسعة: العميقة والشاملة فى آداب وفلسفات العالم الحديث والمعاصر على السواء. تشهد على ذلك كتاباته النظرية ورواياته وأعماله الإبداعية. ولذلك لم يكن من الغريب أن يحصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل العالمية للأدب سنة 1988، وأن يكتب فيه وعنه العدد الذى يصعب حصره من الكُتّاب والنُّقاد العرب وغير العرب على السواء. ولقد سبق لى أن كتبت دراسة أوَّلية بعنوان: «قراءة فى نقّاد نجيب محفوظ» نشرتها مجلة «فصول» (فى عددها الثاني) فى أبريل1981.
........................
وسرعان ما تحوَّلت الدراسة الأولية فى «فصول» إلى دراسة دكتوراه نهض بها الدكتور على بن تميم بعنوان: «النقاد ونجيب محفوظ..».( وقد صدرت كتابا يحمل العنوان نفسه، عن هيئة أبوظبى للثقافة والتراث، دار الكتب الوطنية سنة 2008 ) مستخدمًا الكتابات الأحدث فى نظريات الاستقبال التى برز فيها النقّاد الألمان على وجه التحديد مثل: فولفجانج إيزر، وهانز روبرت ياوس، وغيرهما من النقّاد الذين كتبوا بالألمانية والإنجليزية عن استقبال المجموعات القرائية للأعمال الأدبية، وتنوّع هذه الاستجابات واختلافاتها بسبب من المتغيرات الزمنية والمكانية التى تعنى اختلاف المتغيرات الثقافية والاجتماعية والسياسية خصوصًا من حيث تأثيرها على الجمهور المنقسم إلى مجموعات قرائية يمكن حصرها ودرسها.
وكنتُ أتمنى - ولا أزال - أن أرى تطويرًا لمجالات «نظرية الاستقبال» أو ما يسمّى أحيانًا: «نقد القارئ» مُطبّقًا على نجيب محفوظ الذى وصفه لويس عوض مرة بأنه لا يوجد من «شغل عقلنا الأدبى مثله. ولذلك لفت لويس عوض الأنظار إلى «كورس النُّقّاد» الذى يظهر دائمًا عندما يُصدِر نجيب محفوظ عملًا جديدًا، فتندفع أنهار الأحاديث والمقالات تَتْرَى فى الصحف والمجلات، وعلى موجات الإذاعة. هذا الذى قاله لويس عوض فى مارس 1962، ظل ينطبق على كل ما كتبه نجيب محفوظ منذ أن بدأت شُهرته تلفت الانتباه على امتداد العالم كله وليس العالم العربى وحده، ولذلك يمكن أن نقول إن نجيب محفوظ شأنه فى ذلك شأن كل كُتّاب العالم الكبار، يظل دائمًا جاذبًا للانتباه، خصوًصا فى التنوع المذهل للكتابات النقدية التى كُتبت حول أعماله، بل فى تغير الاستجابة إلى هذه الأعمال ما بين أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بل بين المعتدلين والمتطرفين فى كل اتجاه. وهذا بالفعل ما كان - ولا يزال - يتناسب وعالم نجيب محفوظ الإبداعى، فهو عالم ينطوى على التنوع والتعدد والتباين والاختلاف، بل التعارض فى أشكاله وكتاباته التى تتنقل بين المذاهب والمدارس مؤكِّدة أنها فوق أى تصنيف يخنقها فى صفة نقدية بعينها أو مذهب واحد دون غيره. فكتابة المبدع العظيم فوق أى تصنيف مذهبى أو أى وصف أيديولوﭽى.
وفى هذا الإطار لا بد أن نقرأ كتاب الأستاذ محمد شعير عن رواية واحدة من روايات نجيب محفوظ، وهى رواية «أولاد حارتنا» التى أثارت - ولا تزال تثير - تيارات الإسلام السياسى، بوصفها هدفًا للهجوم والتحريم والتحريض عليها وعلى صاحبها، حتى بعد أن فارقنا بسنوات عديدة، فقد وُلِد نجيب محفوظ فى الحادى عشر من ديسمبر سنة 1911، وتوفاه الله فى الثلاثين من أغسطس سنة2006، عن عمر ناهز أربع وتسعين عامًا، وقد حصل على جائزة نوبل فى الأدب سنة 1988. وكان أول عربى ينال هذه الجائزة، ومن أشهر أعماله التى أشار إليها التقرير المُصاحِب لإعلان الجائزة: «الثلاثية» و«أولاد حارتنا» التى مُنعت من النشر فى مصر منذ صدورها، إلى أن أصدرتها دار الشروق المصرية بمقدمة من الدكتور أحمد كمال أبو المجد، مُمثِّلًا للتيار الإسلامى المستنير.
ولا أظن أن رواية من روايات نجيب محفوظ قد أثارت - ولا تزال تثير - غضبة التيارات الإسلامية مثل رواية «أولاد حارتنا» التى كفَّروها ولعنوها وقارنوا بينها وبين رواية سلمان رشدي: «آيات شيطانية». وجميل جدًّا أن يأتى صحفى شاب بارز وواعد مثل محمد شعير ويخصِّص جانبًا كبيرًا من وقته للبحث فى «أولاد حارتنا» وفى الاستجابات المُضادة لها، فيُخرج كتابًا من أجمل الكتب التى قرأتُها مؤخرًا لِما فيه من إمتاع وجاذبية، وهو كتاب «أولاد حارتنا: سيرة الرواية المُحرّمة». وقد فرغتُ من قراءة الكتاب بعد طبعته الأولى، وكان عليَّ أن أعاود قراءته مرة أخرى فى طبعته الثانية، وذلك لكى أشترك فى مناقشته بدعوة من إحدى دور النشر فى مصر، وهى دار «بتانة» التى يشرف على نشاطها الثقافى الأستاذ شعبان يوسف، وهو ناشط ثقافى فعّال بكل معنى الكلمة. والحق أن ما أثار إعجابى فى كتاب محمد شعير مجموعة من الصفات. أولاها أنه نتاج لما أسمِّيه ب «الكتابة الصحفية المتخصصة». أعنى الكتابة التى يتفرغ فيها صحفى للكتابة عن قضية أو شخصية تثير الرأى العام، وذلك بهدف الكشف عن حقيقة هذه الشخصية وأعمالها سلبًا أو إيجابًا، ولا شك أن القراء يعرفون نماذج لهذه الكتابات التى تسبَّب واحد منها فى استقالة أو إقالة – بلا فارق - الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون، الذى اضطر إلى إنهاء حياته السياسية قبل أن يكمل ولايته الرئاسية الثانية، بداية من اليوم الثامن من أغسطس سنة 1974. وكان ذلك بعد أن كشف الصحفيان كارل برنستين وبوب وودورد من صحيفة «واشنطن بوست» عن أسرار ما سُمِّى ب «فضيحة ووترجيت»، وهو ما صدر فى كتاب كتبه هذان الصحفيان. وهناك مثال آخر أكثر سطوعًا، وهو الصحفى الأمريكى لورانس رايت الكاتب فى «النيويوركر» الذى أصدر كتابه: «البروج المشيدة» الذى أصبح من أفضل الكتب وأكثرها مبيعًا، وهو عن «القاعدة» وما فعلته فى الحادى عشر من سبتمبر 2001، عندما نسفت بُرجى التجارة العالمية فى نيويورك، وقد دار كتابه حول الشخصيات الأساسية التى قادت إلى هذه الجريمة الإنسانية، ابتداء من أسامة بن لادن، مرورًا بأيمن الظواهرى من ناحية، فى مقابل رئيس إدارة مكافحة الإرهاب فى ال FBI جون أونيل، والمدير السابق للمخابرات السعودية: الأمير تركى الفيصل من ناحية مقابلة.
والحق أن إتقان لورانس رايت للغة العربية (عَمِل عدة سنوات فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة)، ساعده على جمع مادة كتابه الذى انتهى من كتابته فى خمس سنوات. ونشره فى 2007 فحصل على جائزة بوليتزر للإنجاز والكشف عن الكثير مما لم يكن معروفًا للجمهور. وقد ساعد على ذيوع الكتاب طابعه السردى المشوّق، وهو ما ظهر فى الترجمة الجيدة التى قامت بها هبة نجيب مغربى، والمراجعة التى قام بها مجدى عبد الواحد. وقد قرأتُ طبعتها الخامسة العربية مؤخرًا، ولم أكد أبدأ قراءة الكتاب حتى شدتنى إليه نزعته السردية وأسلوبه السلس، ووثائقه وصوره التى تضم أيمن الظواهرى، وعمر عبد الرحمن، ومحمد بن لادن، وأسامة بن لادن، ورمزى يوسف، العقل المُدبِّر لتفجير برجى التجارة، وحسن الترابى، وغيرهم. وكانت صور هؤلاء تتضام وغيرها من الصور التى أضافت إلى قيمة الكتاب وجعلت منه أحد المراجع الأساسية عن انتشار الإرهاب الدينى واتساعه، نتيجة عوامل تاريخية محددة وأخطاء سياسية بعينها. ولا أزال أعتبر أن كتاب لورانس رايت يستحق أن يكون نموذجًا لما أُسميه ب “الكتابة الصحفية المتخصصة” والمتميزة بطابعها الأدبى فى آن. وهو الطابع الذى رأيته فى كتاب محمد شعير، الذى يتصف بأنه ينتسب إلى هذا النوع من الكتابة التى ينتسب إليها كتاب لورانس رايت، وكلاهما يشترك فى الموضوع الرئيسى، وهو البحث فى الدور التدميرى الذى تقوم به التيارات المتشددة من الإسلام السياسى. وهى التيارات التى أثبت التاريخ المعاصر بأنه لا فارق فيها بين متشدد ومعتدل من حيث إنها تتحول إلى إرهاب فظيع يمثل ضررًا فادحًا للإنسانية كلها. والحق أننى أُقدِّر لمحمد شعير محاولته المُخلِصة لأن يكتب كتابة صحفية متخصصة على قدر الإمكان، محاولًا التعمق فى موضوعه بقدر طاقته، كما أُقدّر له إبرازه لعدد من الجوانب التى لم يكن يعرفها القراء إلى أن أصدر كتابه الثريّ بما فيه من معلومات. ولكنى لا أستطيع أن أقارن بين كتابه وكتاب “البروج المشيدة” لا فى الإتقان، ولا فى الصبر، ولا فى العمق، ولا فى الشمول على السواء.
حقًّا إن كتاب محمد شعير محاولة ممتازة من صحفى موهوب يمتلك حسًّا أدبيًّا خاصًّا بوصفه خريج أحد أقسام اللغة الإنجليزية فى الجامعات المصرية، وصبره على مراجعة أرشيفات الصحف، يؤكد إعجابى به ويجعلنى أضعه فى الصف الأول من أبناء جيله، لكنى كنتُ وأنا أقرأ كتابه وأكاد أصل إلى النهاية أكرر فى ذهنى بيت الشعر الذى قاله المتنبي:
وَلم أرَ فى عُيُوبِ النّاسِ شَيْئًا كَنَقصِ القادِرِينَ على التّمَامِ
فالمؤكد أن محمد شعير يملك كل الأدوات التى تمكّنه من أن يخرج كتابًا لا يقل أهمية عن كتاب لورانس رايت “البروج المشيدة” مع أنه يشترك معه فى معالجة الموضوع نفسه، لكن من أحد زواياه المحددة، وهى الزاوية التى ترتبط بعلاقة الإرهاب الدينى بالأدب.
وتبدأ ملاحظتى الأولى من العنوان نفسه، وهو عن “أولاد حارتنا” ومعالجتها فى كتاب هو سيرة لها. فالسؤال الذى لا بد أن يتبادر أولا إلى الذهن: إذا كان هناك من يكتب سيرة لهذه الرواية، فلماذا يقتصر على أولئك الذين حرّموها؟ ألم يكن من الأحرى أن يبرز معنى التحريم فى علاقته بنقائضه؟ وأعنى بالنقائض هنا التيارات التى لم تحرِّم الرواية، والتى رأت فيها عملًا أدبيًّا متميّزًا. وبمعنى آخر: ألم تكن سيرة رواية «أولاد حارتنا» - ولا تزال - هى سيرة الصراع بين أنصار الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة، وأنصار الدولة الدينية الإسلامية القائمة على استبداد يشابه النظام الدينى الاستبدادى فى إيران مثلًا؟ وألا يعنى هذا أن التركيز على جانب بعينه من «السِّيرة» يعنى تشويه معنى السيرة نفسه؟! فالسيرة تضم السالب والموجب.
هذا عن الجانب الأول من الأسئلة، أما عن الجانب الثانى، فهو عن المصادر الخاصة بهذه السيرة، هل تكفى للكتابة عن هذه السيرة المصادر المألوفة التى يعرفها محمد شعير بحكم عمله فى جريدة «الأخبار»، وعلاقاته بأرشيفات «الأهرام» أو «الجمهورية» أو غيرهما من صحف الدولة؟ وماذا عن أرشيفات الصحف المُعادية التى جعلت من «أولاد حارتنا» رواية مُحرّمة بالفعل، وهما على وجه التحديد: جريدتا «النور» و«الحقيقة»، ومجلتا «الاعتصام» و«الدعوة»؟ وبالمناسبة ف «الدعوة» مجلة إسلامية إسبوعية ولسان حال الجمعية الشرعية. وكان رئيس تحريرها المؤسِّس، عمر التلمسانى، زعيم الإخوان المسلمين المعروف، الذى تحالف مع أنور السادات على عودة الإخوان المسلمين إلى ممارسة أنشطتهم وعودة مَجلّاتهم وجرائدهم، فضًلا عن جرائد السلفيين المتشددين التى مُنعت فى أيام جمال عبد الناصر، أو ما كان يمكن أن تصدر.
أما النقطة السلبية التالية، فهى افتقار كتاب محمد شعير إلى إبراز التحولات التاريخية التى مرت بها مصر، فأنا لم انتبه - مثلًا- إلى الفارق فى استقبال «أولاد حارتنا» ما بين العهد الناصرى والعهد الساداتى ملحقًا به عهد مبارك الذى تزايد فيه النفوذ الإخوانى والسّلفى. والفارق جذرى بين العهدين.
ومن المؤكد أن رواية «أولاد حارتنا» قد نُشرت كاملة، لم يحذف منها شيء فى جريدة “الأهرام” التى نشرتها يوميًّا دون أى تدخل أو حذف، وذلك بحماية من محمد حسنين هيكل، رجل عبد الناصر القوى فى الإعلام وأجهزته. هذا على الرغم من أن الرواية – فى جانبها الاجتماعي- هى هجوم سياسى رمزى على عبدالناصر وسياساته التّسلُّطيَّة، ومحاولة لإعادة النظر إلى تاريخ البشرية من هذا المنظور الذى يتوالى فيه على حكم الحارة (مصر) فتوّات مستبدون لا يعرفون الرحمة، وهو المعنى الموازى لرمزية أن لا تعرف البشرية - فيمن كانت تتوسم فيه العدل والحرية والكرامة والقيم الإنسانية - سوى فتوّات ظلمة، فتكاثرَ الظلم فى الحارة، وأصبح أبناؤها يصيحون قائلين: «متى نرى مشرق النور والعجائب؟». وبالتأكيد كانت الرواية تقصد التحالف الدائم بين المتزمِّتين دينيًّا والمتسلِّطين سياسيًّا، ومن ثم كانت ضد التعصب الدينى والاستبداد السياسى والاجتماعى معا.
صحيح أن كتاب محمد شعير يشير إلى أن جمال عبد الناصر قد منع رجال المشير عبد الحكيم عامر من أن يقبضوا على نجيب محفوظ، وأنه كان مُقدِّرًا لقيمته وعارفًا لمكانته الأدبية المرموقة، لكن أقصى ما نالته «أولاد حارتنا» أنه لم يسمح لها – شفاهة - بأن تنشر داخل مصر. فاكتفى نجيب محفوظ بنشرها عن طريق دار الآداب التى أتاحتها للملايين من القراء الذين عرفوا أنها سيرة للتاريخ البشرى، وأن مأساة “أولاد حارتنا” ليست فى “الجبلاوي” أو أبنائه بقدر ما هى من الفتوّات الذين يتحدثون باسم الجبلاوى وأبنائه الذين لم يؤذوا أحدًا، وإنما الإيذاء والظلم كله جاء من الفتوّات – رموز الدولة السياسية - الذين عاثوا فى الأرض فسادًا، وملأوا المعتقلات بمن أوهموا الناس أنهم أعداء الوطن أو أعداء الجبلاوى.
ويتصل بهذا الأمر أن الحُكم النّاصرى لم يكن كتلة واحدة، فقد كان هناك تيارات تتصارع داخل هذا الحكم، فهناك من كان ينتسب إلى الإخوان المسلمين وكان معاديًا للحرية الإبداعية مثل كمال الدين حسين، وعبد المنعم عبد الرءوف الذى كان إخوانيًّا كاملا، وكان هناك التيار الليبرالى الذى كان ينتسب إليه ثروت عكاشة، وهو تيار كان يضع الحرية الإبداعية والفكرية فى أول سُلَّم اهتماماته، وهناك التيار اليسارى الذى كان يمثِّله خالد محيى الدين، الماركسى المنفتح النشأة والتكوين، وأخيرًا كان هناك ما يمكن أن نسمِّيه ب «التيار الوطنى» لكن الذى لم يكن يمتلك الوعى الكافى ولا المعرفة الرحبة للحكم فى مسائل الأدب، وهو التيار الذى كان يمثِّله عبدالحكيم عامر الذى لم يكن يعرف سوى «مَن معنا؟» فى مقابل «مَن ضدنا؟».
وكان من الطبيعى فى هذا الموقف، وحسب وعيه الأدبى المتفتِّح، أن لا يستجيب جمال عبد الناصر إلى تحريضات الأزهر ضد الرواية، ولا أن يحقق لهم ولأمثالهم حلم منعها. بل على العكس كان متسامحًا مع الأدباء الكبار الذين دأب الأزهر على مهاجمتهم، فهو الذى أعاد نشر قصائد نزار قبانى بعد منعها فى وسائل الإعلام المصرية، وهو الذى لم يمنع كُتب إحسان عبد القدوس، ولم يحقق رغبة المتزمتين دينيًّا الذين أرادوا ذلك، بعد أن وجَّه إليه إحسان رسالته المعروفة، وأخيرًا ظل عبدالناصر مُحايدًا إزاء كل محاولات سيد قطب فى عدائه للدولة المدنية إلى أن اتسع الخرق على الراقع.
لمزيد من مقالات جابر عصفور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.