أشرنا فى المقالين السابقين إلى أهم التطورات والتغيرات فى البيئة التجارية الدولية والإقليمية، وذلك فى محاولة لدراسة مشروع قانون الجمارك الجديد ومعرفة الى أى مدى سيحقق الأهداف المنوطة به وهنا تجدر الإشارة إلى أن السياسة التجارية تعد أحد أدوات السياسة الاقتصادية حيث تعمل على تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية بالبلاد. وذلك عن طريق الاستخدام الجيد للضريبة الجمركية وبما يتلاءم مع الظروف الاقتصادية والتطورات الاجتماعية. وعلى الجانب الآخر تلعب السياسة الجمركية دورا مهما فى حماية المستهلك المصرى وضمان حصوله على السلعة الجيدة بالأسعار المناسبة، جنبا إلى جنب مع مساعدة المنتج المصرى على إنتاج السلعة القادرة على المنافسة فى الأسواق الدولية. وهنا تجدر الإشارة الى أن السياسة التجارية لا تتوقف فقط على قانونى الجمارك والاعفاءات الجمركية ولكنها ترتبط أيضا بالعديد من القوانين مثل قانون الإغراق وقانون الاستثمار وقانون الملكية الفكرية والقانون الخاص بسجل المستوردين وقانون التجارة، بالإضافة الى بعض التدخلات من العديد من القوانين الاخرى والاتفاقات التجارية الكثيرة، وبالتالى هناك غابة من القوانين والتشريعات التى تنظم هذه العملية وتضع صعوبات كثيرة عند محاولة تنظيمها. والاهم من ذلك هو غياب التنسيق والتكامل بين السياسات بعضها البعض وخير دليل على ذلك ما برز خلال الحوار الدائر حاليا حول تطبيق اتفاقية الشراكة الأوروبية وتخفيض الجمارك على السيارات المستوردة من هذه البلدان، اذ أشار مسئولو الجمارك الى ان المسئولية تقع على عاتق وزارة التجارة والصناعة وانهم لا علاقة لهم بالموضوع، وهو ما يشير الى غياب الرؤية المتكاملة للسياسة الاقتصادية والتجارية من ناحية، والاهم من ذلك انعدام دور المجلس الأعلى للتعريفة الجمركية، وهو الدور الأساسى له خاصة ان به ممثلى الوزارات المختلفة ومع تسليمنا الكامل بالحاجة الى تغيير القانون الحالى للجمارك للأسباب السابق ذكرها إلا اننا نرى أيضا ضرورة تغيير فلسفته، اذ أن الأساس الفلسفى الحالى يقوم على أساس ان تحرير التجارة الخارجية يؤدى الى النمو الاقتصادي، وذلك احياء للمقولة الاقتصادية لجاكوب فاينر وهى ان التجارة محرك للنمو وهنا نلاحظ ان العلاقة بين التجارة والنمو لم تزل مثار جدل مستمر فى الفكر الاقتصادي، بل يمكننا القول إن علاقة السببية تفتقد الى سند قوى، سواء على صعيد النظرية، او على صعيد التطبيق. فإذا كانت الزيادة السريعة المتواصلة فى الصادرات مفيدة للنمو الاقتصادي، إلا أن معظم الدراسات التى تربط بين الاثنين تتفق على ان ارتفاع معدل زيادة الصادرات مرتبط بصفة عامة بارتفاع معدل النمو الاقتصادي. من هذا المنطلق يمكننا مناقشة أى سياسة تجارية يمكن أن تؤدى للنمو ومن ثم علاج العجز التجاري. بل إن فكرة المزايا النسبية التى اعتمدت عليها التجارة الدولية، فيما مضى، قد أصبحت محل شك وجدل كبير بعد أن أدت التطورات التكنولوجية الهائلة الى ازدياد قدرات الدول على إيجاد قدرات تكنولوجية جديدة تمكنها من تطوير طاقتها الإنتاجية بما يرفع من معدلات الأداء الداخلى وتحولت المجتمعات من المزايا النسبية الى القدرة التنافسية فى إطار من المعرفة والعلم وهما أساس القوة التفجيرية الجديدة التى قذفت بنا إلى آتون التنافس العالمى المرير. فى هذا السياق نلحظ ان الميزان التجارى مازال متدهورا، اذ وصل العجز به الى 37٫3 مليار دولار عام 2017/2018 مقابل 27٫1 مليار دولار عام2010/2011، وأصبح يشكل أحد القيود الاساسية على حركة ميزان المدفوعات والاقتصاد المصرى ككل، خاصة ان هذا الميزان يعكس الهيكل الإنتاجى للدولة ومدى تطوره، وهو ما يظهر فى المعاملات السلعية وتركيبة السلع الداخلة فى حركة التجارة المصرية. وتكمن خطورة هذه المسألة فى ضوء تدهور نسبة تغطية الصادرات للواردات (41% فقط) والتى تعد مؤشراً خطيراً، يجب ان يكون دافعا لمحاولة إعادة التوازن بحيث تغطى الواردات السلعية النسبة الاكبر من الصادرات السلعية. فإذا كان من المقبول الا تغطى قيمة الصادرات، القيمة الكلية للوردات، على اعتبار ان الثانية تشمل واردات استثمارية تستخدم فى عمليات التكوين الرأسمالى والتى لا يتحقق عائدها إلا فى الاجل الطويل، إلا انه من غير المقبول ألا تغطى قيمة الواردات الجارية (اى بعد استبعاد الواردات الاستثمارية). وهو امر بالغ الخطورة بحيث يجب العمل على ان تغطى الصادرات السلعية النسبة الاكبر من الواردات السلعية. من هذا المنطلق نرى أن القائمين على المشروع قد احسنوا صنعا حينما قاموا بدمج قانون الجمارك وقانون الإعفاءات الجمركية فى المشروع الحالى وهى خطوة صحيحة ومهمة وان كنا نرى أيضا ضرورة إضافة المادة السابعة فى قرار رئيس الجمهورية الخاص بالتعريفة الجمركية الى هذا المشروع والخاصة بالمجلس الأعلى للتعريفة الجمركية خاصة أنه يختص ببحث واقتراح التعديلات الملائمة على التعريفة وتطوير النظم الخاصة بها بما يتلاءم مع المتغيرات الاقتصادية وعلى الجانب الاخر فإننا نلحظ ان المشروع لم يضع الاليات الكفيلة بالتصدى لمشكلات التهريب والتهرب الجمركى سواء عبر تزوير شهادات المنشأ للحصول على الإعفاءات الجمركية المقررة وفقا للاتفاقيات الموقعة مع بعض البلدان مثل الاتحاد الأوروبى والكوميسا والدول العربية او الفواتير المزورة والاستيراد العشوائي، والاهم من ذلك ان المشرع استمر فى النص على اعفاء سيارات النقل السياحى طبقا لأحكام القانون رقم 38 لسنة 1977 بنفس الكيفية الحالية والتى أدت الى انتشار واسع للتهرب عبر هذه الالية فلا يزال النص على انه السيارة المعدة لنقل عشرة اشخاص بما فيها السائق، وهو ماأدى الى قيام أصحاب العربات ذات الدفع الرباعى بإضافة مقعدين خلفيين صغرين، واعتبارها سيارة سياحية، وضاع على الدولة حقها فى الرسوم الجمركية. يضاف الى ما سبق ما جاء بالمادة 17 من المشروع والتى تنص على ان توضع المبالغ التى تحصل عليها المصلحة مقابل الخدمات التى يقدمها موظفو المصلحة واثمان المطبوعات والنماذج وغيرها من الرسوم، فى حساب خاص يصرف لتطوير المصلحة فضلا عما جاء بالمادة 81 من ان تكون الغرامات والتعويضات لصالح المصلحة، وهو ما يخالف مبدأ أساسيا من مبادى الموازنة وهو وحدة الموازنة اذ لا يجوز تخصيص مورد مالى معين لنفقة محددة مما سبق يتضح انه من الضرورى إعادة النظر فى المشروع المقترح لتلافى السلبيات وتغير الفلسفة التجارية المبنى على اساسها لمزيد من مقالات ◀ عبد الفتاح الجبالى