يقولون «الفنون جنون».. والحقيقة أن هذا التعبير المستمد من حياة ومعاناة عدد من المبدعين فى الغرب مثل بيتهوفن وفان جوخ وفيرجينيا وولف وسيلفيا باث واذرا باوند وغيرهم، سرى كالنار فى الهشيم بين شعراء ومبدعين عرب واستهوى عددا من أصحاب الطموحات الفنية، فروجوا له لتبرير سلوكيات غير مألوفة أو كذريعة لتأكيد موهبة، ربما تكون حقيقية أو مزعومة، والتعايش مع مهن كالتمثيل والتأليف والصحافة فى زمن كان المجتمع ينظر لها بنظرة دونية، ربما لا تزال تطارد بعض العاملين فى هذه المهن حتى اللحظة!! فهل حقا ثمة ارتباط بين الفن والإبداع والعبقرية وبين الاضطرابات النفسية ؟! تاريخ الفنون يشير إلى أن كتاب العصر الرومانسى هم من أحاطوا المبدعين ب «هالة من الهوس» ليظهروهم بقدرات استثنائية، وليرسخوا الاعتقاد بأن الإبداع يرجع إلى بعض العوامل الكامنة التى لا يمكن التحكم فيها، واعتبروها قبساً من عبقرية. الطريف أن الأمثلة المستمدة من الواقع تشى بأن عددا لا بأس به من الجمهور تستهويه نفس الفكرة بل يشعر بأنه كلما اقترب المبدع من حافة الجنون وازدادت معاناته كان إبداعه أكثر قيمة وأهمية!! تشير الباحثة «كريستا تيلوى» بمعهد الذكاء العاطفى- بجامعة يل الأمريكية- لتجربة عرض لوحة عباد الشمس «لفان جوخ» على عدد من الطلبة لتقدير قيمتها المادية والفنية، وملاحظة الباحثين لظهور تفاوت ملحوظ فى السعر الذى حدده الطلبة الذين شاهدوا اللوحة دون أن يعرفوا قصة بتر فان جوخ لأذنه، وبين من ربطوا بين اللوحة والحادثة المؤلمة. وتقول الباحثة إن نفس الموقف تكرر عندما قام الطلاب بتثمين قطعة فنية بسعر أعلى لفنان خيالى وصفه الباحثون لعينة البحث بأنه غريب الأطوار. ويرجع بعض الباحثين فكرة الربط بين العبقرية والإبداع وبين الاضطرابات النفسية فى الذهنية الجمعية إلى تكرار وسائل الإعلام لقصص تصور الفنان المعذب العبقرى المجنون وحكايات وتجارب من عايشوه عن قرب أو بعد شخصاً يعانى اضطرابات مزاجية ومع ذلك يبدع فنا ذا مذاق خاص متميز. وتفسر«كريستا تيلوى» الظاهرة بأن تكرار ربط العمل الإبداعى بالاضطرابات المزاجية أدى لظهور علاقة زائفة بين طرفين ارتباطهما غير شرطي. وبتعبير أوضح يترسب فى اللاوعى ما يشبه المعادلة، مقدمتها الاضطرابات النفسية والهلاوس، ومحصلتها النهائية ظهور عمل إبداعى مبهر. ولعل ما عزز هذه الفكرة ندرة من يقدمون تلك النوعية من الإبداعات، وأن إحدى دراسات القرن الماضى أظهرت أن 89% من المبدعين الذين مثلوا عينة البحث اعترفوا بأنهم يعانون من أعراض نوبات هوس.. كذلك فقد اعتبرت الطبعة الثالثة من الدليل الأمريكى للتشخيص الإحصائى للاضطرابات العقلية «1980» التفكير الإبداعى عرضا من أعراض الهوس !! وبدخول الألفية الثالثة اهتم الباحثون فى تاريخ الفن وعلم النفس بدراسة معادلة أو مقولة «الجنون فنون» للوصول لدليل يعزز أو ينفى الرابطة بين الإبداع والاضطرابات المزاجية. وبدراسة الظروف المحيطة بمبدعى القرون الماضية والحكايات غير الموثقة عنهم رفضت دراسات سيكولوجية المبدع التكريس لفكرة «الفنون جنون» واعتبروها خيارا صعبا قد يدفع المبدع لرفض العلاج خشية فقدان قدرته الإبداعية، وبالتالى فقد طالبوا بدراسة الشخصية فى سياق المرحلة التاريخية بكل جوانبها مع الالتزام بمعايير علمية وبمصادر موثقة لدراسة الظاهرة. لمزيد من مقالات سناء صليحة