يخطئ الكثيرون حين يظن أن الأقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم يعنى مراعاة سنن الطعام والشراب والهيئة، فضلا عن سنن العبادات كالصلاة والصيام.. ونحو ذلك من السنن التعبدية.. فهناك جانب آخر أهمله الكثيرون فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الجانب العملي العمراني. فإعمار الأرض من الغايات المهمة التى خلق الله الإنسان من أجل تحقيقها، لذا كان الجانب العملى العمرانى من أبرز الجوانب فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم. والتطبيقات النبوية تدعو للأخذ بالأسباب واحترام السنن الكونية وعدم التواكل والدعوة للسعى لتحصيل العلم وطلب الرزق.
يقول الدكتور عادل هندى، مدرس الدعوة بجامعة الأزهر: من أهمّ خصائص رسالة النبى محمد صلى الله عليه وسلّم أنها رسالة بناء تراها بوضوح فى ميادين العمل والإنتاج والأخلاق والقيم. ولرسولنا الحبيب منهجية واضحة فى بناء الأوطان، تتمثل فى بناء الإنسان فهو شعلة النشاط، وبارقة الأمل فى بناءِ أيّ مجتمع، فالاستثمار الحقيقى فى الوطن يكون ببناء الإنسان أولاً، عقيدة وثقافة وفكرًا وأخلاقًا واقتصادًا؛ فهو أساس التقدّم، وهو عمود الرقيّ، وهو ركن التحضّر. ويتبعه من ثم بناء وحْدة الصفّ المجتمعى كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلّم فى أوّل مَقْدِمِهِ إلى المدينة الطيبة حينما آخى بين المسلم والمسلم أخوة إنسانية ووطنية وإسلامية، كما آخى بين المسلم وغير المسلم أخوة إنسانية، فاستطاع أن يحفظ الوطن فى أوّل عهد تأسيسه، وفى سبيلِ تحقيقِ هذه الوحدة وتلك الأخوّة أعدّ النبيّ دستورًا ووثيقة تعمل على حماية المواطنين جميعًا مسلمًا وغير مسلم. ويقول الشيخ أحمد ربيع الأزهري، من علماء الأزهر: خص الله الإسلام كدينٍ خاتمٍ للرسالات بمقاصد كبرى تحقق مقاصد الله من خلق الإنسان، وتحقق لهذا الإنسان ديمومة الحياة بعقيدة إيمانية تصله بالسماء، وبعمارة تبذر الأمل وتقرنه بالعمل والبناء، وبتزكية تضبط الجانب القيمى والأخلاقى لهذا الإنسان المستخلف عن الله فى تعمير الأرض وإقامة الفرض، وأعطاه من أجل التعمير نعمة «التسخير» وأقام عليه فى الآخرة «الموازين»، لذلك استفتح الوحى كلماته بالأمر بالقراءة مرتين؛ لنعلم أن القراءة تكون للكون المنظور بالتفكر وللكتاب المسطور بالتأمل؛ فيتعمق الإيمان، كما أن الآيات الأُول من القرآن مع ذكرها للأمر بالقراءة مرتين والقلم مرة فإنها ذكرت اشتقاق مادة «العلم» ثلاث مرات و«الإنسان» ثلاث مرات لنعلم أن هذا الدين فى فقه الإعمار البشرى وتحقيق فقه الاستخلاف فى الأرض ينبنى على ثلاث ركائز: محورية الإنسان، ومركزية العلم، ومنظومية القيم. وهذا ما طبقه الرسول صلى الله عليه وسلم عمليا عند تأسيس دولته الفاضلة فى المدينةالمنورة، حيث جعل الإنسان هو المحور الأساس فانشغل ببناء الإنسان، فأزال الأحقاد بين الأوس والخزرج وسماهم الأنصار، وآخى بينهم وبين المهاجرين، وعقد مع اليهود عهودا ومواثيق ليضبط الحقوق والواجبات فى وثيقة دستورية تعد الأولى بهذا الكمال والإنصاف بين بنى الإنسان، وجعل من «المسجد» محوراً لبناءِ ذلك الإنسان، كما جعله محلا للقضاء، ومنتدى للشورى، ومأوى لأرباب الحاجات، وجعله نموذجاً مصغرًا لما يعرف «بدولة المؤسسات». فقه الإحياء الرؤية الإسلامية يرتبط منهجها فى الإعمار البشرى ب «فقه الإحياء» الذى يُعظم كرامة الإنسان «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ»، ويحفظ حرمة دم وحياة الإنسان - مطلق الإنسان «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»، ويعظم مقاصد الشريعة والاستثمار فى الحياة من خلال قيم التقدم من بناء وإعمار مؤسس على علم متقن وعمل محكم، ويعظم أهمية الوقت واحترامه، ويؤمن بالتنوع والاختلاف والحرية والعدل والمساواة. والتطبيقات النبوية تدعو للأخذ بالأسباب واحترام السنن الكونية وعدم التواكل والدعوة للسعى لتحصيل العلم وطلب الرزق.. وأشارت إلى أن اليد العليا خير من اليد السفلى وأن المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. العمل العمرانى عند رسول الله يقول الدكتور محمد أبو زيد الفقى، عميد كلية الدراسات الإسلامية بكفر الشيخ سابقا: إن العمل العمرانى كان من أبرز الجوانب فى حياة النبي، صلى الله عليه وسلم، لأن العبادة مثلا، منها ما يظهر أمام الناس، فى كل الأوقات، مثل الفروض، ومنها ما لا يظهر إلا فى بعض الأوقات مثل النوافل، ولكن العمل هو ذلك المسلك، الظاهر دائما أمام الناس، وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، هو الأسبق فى هذا المجال، إلا أن ظروف العرب التاريخية والجغرافية، (قلة النشاط الإنسانى بسبب ظروف الصحراء) منعت كتاب السير والمؤرخين العرب ومن نقل عنهم من الاحتفاء والاحتفال بهذا الجانب العظيم، فى حياة النبي، صلى الله عليه وسلم. وفى العصر الحديث وجد أعداء الإسلام والكسالى من أبنائه فى ذلك فرصة سانحة للدعوة إلى الخمول وترك العمل العمراني، واستعانوا ببعض النصوص التى ساعدهم قلب معناها على تركيز وتحبيذ هذا الاتجاه عند الأمة. ويوضح الفقى أن العمران كان من أبرز الجوانب فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم. والباحث فى سنته يجد أنه لم يكن كثير الكلام، ولا كثير الجلوس، ولا كثير النوم. ومن هنا ندرك إدراكا علميا كيف أسس النبي، صلى الله عليه وسلم، الدولة ونظم الأمة، وكشف الغمة عن البشرية جمعاء، وكيف كان يدرب الفتيان فى أطراف المدينة، وينظم الجيوش للوصول إلى أطراف العالم، مؤكدا أن العالم الإسلامى اليوم لا يحتاج إلى تقليد اليابانيين والألمان فقط، بل يحتاج للتأسى بالنبي، صلى الله عليه وسلم، تأسيا حقيقيا من خلال سنته المنطبقة على عطائه الحضاري. حتى إن العالم الألمانى باول شمتز فى كتاب «الإسلام قوة الغد العالمية» يقول: لم يحمل أى دين فى التاريخ قيما حضارية كما يحمل الإسلام، ولو فقه المسلمون سطرا من سيرة نبيهم لصاروا قادة العالم من جديد. ويقول الدكتور عبدالرحمن سالم، أستاذ التاريخ الإسلامى بكلية دار العلوم: إعمار الأرض من بين الغايات المهمة التى خلق الله الإنسان من أجل تحقيقها، وهو ما تشير إليه الآية الكريمة: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)، أى طلب منكم السعى لعمرانها. وإذا كان الله سبحانه يقول: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، فإن العمل من أعظم صور العبادة. وقد قدم الرسول نموذجا للعمران البشرى على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة. فعلى المستوى الفردى حث المسلم على العمل لإعمار الأرض إلى آخر يوم فى حياته، فأوصاه إذا حضرته الوفاة وكانت فى يده فسيلة «نبتة صغيرة» فليغرسها إن استطاع من أجل إعمار الكون، كما حثه على ألا يتواكل أو يمد يده للآخرين، فقال: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه»، وقال: «من أمسى كالا من عمل يده أمسى مغفورا له»، بل أضاف إلى ذلك أن هناك «من الذنوب ما لا يغفره إلا السعى فى طلب الرزق». والعمران فى نظر الرسول صلى الله عليه وسلم يتجاوز العمل المادى إلى مفهوم أوسع وهو المسئولية تجاه الآخرين: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»؛ فلا يتم العمران الحقيقى إلا بحسن قيام الفرد بمسئوليته. أما العمران على المستوى الجماعى (أو على مستوى الأمة) فقد قدم له الرسول صلى الله عليه وسلم نموذجا فريدا يتمثل فى دولة المدينة التى أحكم بنيانها على المستوى الحضارى بصفة عامة؛ فجعل من المسلمين أمة متماسكة قوية، وجعل من المسجد مؤسسة دينية وسياسية وإدارية وثقافية واجتماعية، ثم قدم وثيقة المدينة التى نظمت العلاقات بين عناصرها السكانية المختلفة من مهاجرين وأنصار ويهود وغيرهم. فمفهوم العمران كما أرساه الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على المستوى المادى بل جاوزه إلى غيره من المستويات الروحية والثقافية والحضارية بشكل عام. وهكذا تكاملت عناصر هذا العمران، وكان ذلك وراء ظهور أمة استطاعت أن تكون فى طليعة العالم فى غضون عقود قليلة بعد ظهور الإسلام. ويقول الدكتور إبراهيم عوض، أستاذ النقد الأدبى بآداب عين شمس: لقد كان للعلم مكانته العظيمة الكريمة أيام عز المسلمين، لكن الحال قد تدهور مع مرور القرون، فصاروا لا يهتمون بالجِدّ والعمل من أجل القوة والغلبة والسيادة والغنى فى الدنيا، واستسلمت الجماهير لما تظنه قضاء وقدرا كُتِب عليها منذ الأزل فليس لها منه أى نجاء، غافلة عن أن القضاء والقدر ليسا أكثر من السنن التى أقام الله عليها كونه وسيَّره عليها بحيث يستطيع البشر من خلال فهمها والعمل بمقتضاها أن يسيطروا على الدنيا من حولهم وأن يدبروا أمورهم أفضل تدبير ممكن: «إنّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ»، «فلَنْ تَجِدَ لسُنَّة الله تبديلاً، ولَنْ تَجِدَ لسُنَّة اللهِ تحويلا»، «وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِى الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ». أى أن كل شىء فى الكون مخلوق بقَدَرٍ منضبط لا زيادة فيه ولا نقص بل على أساس من الميزان الدقيق، فهو يجرى على سنة لا تتخلف، اللهم إلا فى معجزات الأنبياء، وهى أمور عارضة لا تَطَّرِد ولا تستمر بل تنتهى فى وقتها، كما أنه قد انتهى إرسال الأنبياء، فليس أمام الناس إذن إلا الالتزام بتلك السنن واكتشاف أسرارها والجرى على ما تستلزمه من تدابير. فتلك المعانى والمعالم العملية فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم هى أهم ما تحتاجه الأمة الآن وهى تحتفل بذكرى مولده.