احتفل العالم بيوم التسامح، رغم أن آلة الحرب لاتزال تدور فى أنحاء عدة من هذا الكون الفسيح، وبدأ الأمر وكأن الاحتفال به بات مجرد تنفيذ لبروتوكول يتم فى السادس عشر من نوفمبر سنويا، احتراما للمنظمة الأممية التى تبنته، ويقتصر على خطاب تصدره المنظمة يذكر الحكومات والشعوب بالتسامح وأهميته، والتفاهم بين الثقافات من أجل التعايش السلمي، وإيقاف آلة الحرب التى لاتترك الأخضر واليابس، وتحيل العمران إلى خراب، يحتاج إلى جهود شاقة وأموال كثيرة من أجل إعادة إعمار ماتهدم بفعل الحروب التى اندلعت ولا أحد يعرف متى تنتهي، ومن هنا تبدو الحاجة إلى التذكير بالتسامح وقيمه وأهميته للأفراد والشعوب والأمم، ليس فى يوم واحد من بين أيام العام، وإنما فى كل يوم، علينا جميعا أن نذكر أنفسنا أولا بأول بقيم التسامح التى تحض على تقبل الآخر والحوار معه وتقبل اختلافه فى الفكر والعقيدة واللون والجنس، علينا أن يكون التسامح سلوكنا الذى يعكس تحضرنا وإدراكنا لمفهوم التسامح الذى وصفه إعلان المبادئ الصادر عن الأممالمتحدة، بأنه يعنى الاحترام والقبول والتقدير والتنوع الثرى لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية، فالتسامح لايعنى أبدا اللامبالاة أو السلبية أو القبول فى صمت لنظهر غير ما نبطن من مشاعر تجاه الآخرين، وإنما يجب أن يكون عن اقتناع تام بأنه السبيل الوحيد للتعايش السلمى بين الأفراد المتنوعين فى الفكر والثقافة والعقيدة واللون واللغة لكنهم يدركون أنهم يعيشون على كوكب واحد ويجمعهم مصير مشترك ويسعون من أجل مستقبل أفضل، وأن هذه الرؤية هى الضمانة الوحيدة ليسود السلام أرجاء المعمورة، وتتوقف الحروب التى نتجت عن أسباب عدة من بينها الصراعات السياسية والاضطهاد والفقر والرغبة فى الهيمنة على مقدرات الشعوب. كان التسامح هدفا للانسانية منذ بدء التجمعات البشرية, فعرف الناس أهمية الاحترام المتبادل والانفتاح على الآخر والتعاون معه فى العمل وتبادل الخبرات فى الأعمال الحياتية، واجتمعوا على رفض العنف ومحاربة القمع ووضعوا قواعد اجتماعية أصبحت دستورا حاكما لهم تمثل فى العادات والتقاليد التى لها من القوة مايفوق القوانين فى عديد من المجتمعات وفى المقدمة منها الدول العربية، ومن هنا كان التعايش الذى عرفته الشعوب فى كل بقاع الأرض عبر التاريخ، أسهمت الأديان السماوية فى تأصيل التسامح باعتباره مطلبا ملحا ارادته الفطرة البشرية واقتضته المعايشة وفرضه التنوع الثقافي، فدونه لن يكون هناك سبيل لنمو المجتمعات وتبادل المعاملات وتعدد الخبرات فى ظل حاجة كل فرد الى الآخر، وهو مايفرض على كل طرف أن يعترف بحق الآخر فى الحياة واختيار المعتقد، ومن هنا تكون المجتمعات المتنوعة الثقافات واللغات والمعتقدات، وهو ماكان يميز بلدان الحضارات القديمة، حتى أنهم كانوا يطلقون على الاسكندرية ولايزالون المدينة الكوزموبوليتانية أى المتعددة الثقافات، لكونها ضمت المصرى واليونانى والإيطالى والفرنسى والإنجليزى والأرمينى والعربى جنبا إلى جنب، بفعل موقعها الجغرافى على شاطئ المتوسط، وتواصلها مع الثقافات الأخرى منذ عقود لما تملكه من كنوز التراث والمعرفة فى مكتبتها العريقة، وكونها ميناء للسفن فاختلط على أرضها العديد من الجنسيات، ومنهم من استقر فيها وأصبح جزءا منها، ورغم انه يعيش فيها ويحمل جنسيتها إلا أنه لايزال يحتفظ بلغة موطنه الأم، ولهم أندية تحمل اسم بلدانهم، لكنهم فى الوقت نفسه مواطنون لهم ما للاخرين من حقوق وعليهم ماعليهم من واجبات, ويمكن التوقف عند التجربة السكندرية باعتبارها نموذجا يحتذى فى الحديث عن التسامح، فهى تجسيد لما جاء فى إعلان اليونيسكو وتضمن أن التسامح يتعزز بالمعرفة والانفتاح والحوار وحرية الفكر والرأى. أن الاحتفال باليوم العالمى للتسامح لا يمكن أن يقتصر على يوم واحد، وإنما على الدول والحكومات ومؤسسات المجتمع المدنى ونجوم الفن والرياضة أصحاب الشعبية والقبول الجماهيرى أن يقوموا بدورهم ويضطلعوا بمسئولياتهم فى نشر قيم التسامح، خصوصا فى المدارس لينشأ الصغار على تلك المفاهيم، فكما هو معروف أن التعليم فى الصغر كالنقش على الحجر، لاينمحى مهما طال العمر، ومن شب على شىء شاب عليه، ومن هنا تكون البداية فى نشر قيم التسامح ليصبح سلوكا ذاتيا يتدرب كل منا عليه وينعكس على كل تصرفاته فى الحياة اليومية، من خلال قيادة مركبته أو السير فى الشارع أو التعامل مع الهيئات الخدمية، أو فى القطارات والمترو ووسائل النقل العامة، عليه أن يعرف أن الاخر الذى يمر بجواره أو يشاركه السير أو يزاحمه من أجل الحصول على خدمة، هو بشر مثله يعيش معه فى نفس البلد ويحمل ذات الجنسية، ويتحتم عليه أن يتعامل معه باحترام وتقدير وفى إطار المواطنة التى تعطى الجميع ذات الحقوق فلا تمييز بين البشر ساعتها سيسود السلام. لمزيد من مقالات أشرف محمود