إذا كان الكثيرون قد فوجئوا بزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلى لسلطنة عمان, فإن المفاجأة ليست فى طبيعة ما جرى وإنما فى توقيته, ذلك أن الاتصالات العربية-الإسرائيلية لم تعد عملاً غير مألوف، بل إنها بدأت مع بداية الصراع العربي-الإسرائيلى نفسه وإن اتخذت الشكل العلنى مع زيارة الرئيس السادات للقدس 1977 وبعدها تكررت على مستويات مختلفة، ولذلك فإن الأهم من تناول الزيارة من منظور أيديولوجى تحليل محتواها ومصيرها باعتبار أنها تتم فى إطار جهود التسوية السياسية للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، فقد سبقتها زيارة للرئيس الفلسطينى إلى السلطنة وأعقبتها زيارة مبعوث من السلطان قابوس للرئيس، وقد صرح السيد يوسف بن علوى وزير الخارجية العمانى بأن: كلاً من الطرفين أبدى رغبته فى اللقاء بالسلطان الذى استمع منهما لسبل حل الخلافات وأسباب عدم نجاح المفاوضات واستمعوا إلى آراء السلطان، وأعتقد أنهم خرجوا من خلال هاتين الزيارتين ربما أفضل حالاً من قبل الزيارتين، وتدرك السلطنة وفقاً لوزير خارجيتها أن الحوار بين الطرفين متوقف لأسباب «معروفة وجوهرية» لكنه يعتقد أن الزمن الآن أصبح مناسباً للتفكير بجدية للتخلص من المشكلات التى لا تسمح لدول المنطقة بالتطور الذى تستحقه. ليس هذا النوع من السلوك بالجديد على السياسة الخارجية العمانية التى اتسمت بتوازن ظاهر فى عهد السلطان قابوس، وقد نذكر رفضه الانسياق وراء المقاطعة العربية لمصر بعد معاهدة السلام مع إسرائيل، والإبقاء على توازن موقفه من الحرب العراقية-الإيرانية وعدم قطعه الاتصالات مع صدام حسين حتى بعد غزو الكويت وعلاقاته الطبيعية مع إيران ورفضه المشاركة فى عاصفة الحزم وعدم انحيازه فى الأزمة الحالية بين قطر وكل من مصر والسعودية والإمارات والبحرين. وقد أهلت هذه السياسة عمان غير مرة لأن يبرز اسمها كوسيط كما حدث إبان مفاوضات الاتفاق النووى مع إيران ,وفى تقديم مبادرة لتسوية الصراع الراهن فى اليمن وفى شائعات قيام السلطنة بدور فى مفاوضات إيرانية-أمريكية محتملة وهكذا، ومع ذلك فإن وزير الخارجية العمانى حرص على نفى صفة الوساطة عن الجهود العمانية الحالية مؤكداً أن بلاده تطرح أفكاراً لمساعدة الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى على التقارب لكنها لا تلعب دور الوسيط. وأضاف: إنما نحن نقدم ما نسميه التيسير، كما أنه حرص على تأكيد أن الدور الأمريكى هو الدور الرئيسى فى مساعدة الطرفين ومساعدة دول المنطقة المحاذية لهما فى التوصل إلى اتفاق يرضى الطرفين والجميع فى إطار صفقة القرن! وعاد فأكد المعانى السابقة فى «حوار المنامة» منذ أيام. وأياً كانت تسمية الجهود العمانية الراهنة فإنه من المؤكد بداهة أنها ذات صلة مباشرة بمحاولات تسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ولذلك فإن السؤال المهم عملياً يدور حول حظوظ هذه الجهود من النجاح، ومن المعروف فى التحليل السياسى أن التنبؤ بالمسار المستقبلى لظاهرة ما صعب للغاية ومستحيل فى بعض الأحيان نظراً لتعقد الظواهر السياسية وعدد من العوامل الأخرى التى لا مجال لذكرها فى هذا الحيز الضيق، غير أنه من المعروف أيضاً أن التنبؤ يكون ممكناً بل سهلاً فى بعض الحالات التى تكون متغيراتها ثابتة والخبرات المتراكمة فيها واضحة بحيث يتبلور عبر الزمن نموذج محدد لسلوك الأطراف الفاعلة فى الظاهرة التى نحاول التنبؤ بمسارها المستقبلي، ومن حسن الحظ أن جهود التسوية السياسية للصراع العربي-الإسرائيلى عامة والفلسطينى خاصة تنتمى إلى هذا النوع من الحالات, فالسلوك الإسرائيلى معروف منذ نشأة إسرائيل وهو أن صانعى القرار فيها لا يقدمون أدنى تنازلات إلا إذا أُعملت القوة بشكل أو بآخر ضدهم، ولذلك لم تنسحب إسرائيل من سيناء إلا بعد حرب أكتوبر, ومن الشريط الحدودى الجنوبى فى لبنان إلا بعد مقاومة لبنانية ضارية دامت لسنوات ومن قطاع غزة إلا بعد أن أصبح بقاء القوات الإسرائيلية فيها وأمن المستوطنات المحيطة بها غير آمن نتيجة المقاومة التى تفجرت بعد انتفاضة الأقصي، ولم تعترف بمنظمة التحرير ممثلة للشعب الفلسطينى الذى كانت تنكر وجوده أصلاً وفقاً لمقولة أرض بلا شعب (أى فلسطين) لشعب بلا أرض (أى اليهود) إلا بعد انتفاضة الحجارة، والآن أين هى تلك القوة التى تُمارس ضدها فى ظل الانقسام المخجل داخل النخبة السياسية الفلسطينية وكذلك الانقسام العربى الراهن, ناهيك بانشغال عديد من الدول العربية بأزماتها وصراعاتها الداخلية, وكذلك بتغول الدعم الأمريكى لإسرائيل فى ظل الرئاسة الأمريكية الحالية وذروته الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية فيها إلى هذه المدينة المقدسة. أما القوى الدولية الأخرى الأكثر إنصافاً فهى غير قادرة على الضغط على إسرائيل فى اتجاه تقديم أى تنازل. ويعنى ما سبق أن احتمالات نجاح أى جهود لتسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلى فى ظل الأوضاع الراهنة تساوى الصفر وأن هذه الجهود ستؤول إلى ما آل إليه غيرها فى محاولات سابقة عديدة لم تتصد لها قوى إقليمية فحسب وإنما تصدت لها الولاياتالمتحدة ذاتها كما حدث فى حالتى الرئيسين جورج بوش الأب والابن عندما بادر أولهما بعقد مؤتمر مدريد وثانيهما عندما طرح خريطة طريقه التى نصت صراحة على إنشاء دولة فلسطينية صدر من مجلس الأمن قرار بها، ولذلك فإن أى جهد عربى مخلص ينبغى أن ينصرف إلى محاولة تغيير الواقع الراهن المواتى لإسرائيل كما تفعل السياسة المصرية مثلاً بجهودها الدؤوبة لتحقيق مصالحة فلسطينية من شأنها تقوية الطرف الفلسطينى فى الصراع، ويبقى أننى لم أفهم التأكيد غير مرة أن الأصل فى جهود التسوية العمانية هو مساعى ترامب وما يُعرف بصفقة القرن، ذلك أن هذا التأكيد يُفقد الجهد العمانى دلالته فضلاً عن أن أحداً لا يعرف حتى الآن حقيقة هذه الصفقة. لمزيد من مقالات ◀ د. أحمد يوسف أحمد