مع توالى الأحداث الفارقة فى المنطقة العربية خلال العقود الثلاثة الماضية، والتراجع الشديد فى الأداء العربى الفردي، والجماعى فى مواجهة تلك الأحداث التى تؤثر جذريا على الوجود العربى نفسه، وليس على المصالح العربية فحسب، ومع تكرار المواقف نفسها، وإعادة الحجج نفسها، والتفسيرات، والتبريرات يثور السؤال المنطقي: هل يملك العرب فكرا استراتيجيا؟، وهل هناك مؤسسات تعمل على تطوير هذا الفكر؟، وهل هناك عقول عربية، إن لم توجد مؤسسات تمارس هذا النوع من التفكير؟... أسئلة كثيرة تدور حول الوجود والعدم للعقل الاستراتيجى العربى الجماعى أو الفردي... وللأسف لا يستطيع أحد أن يجيب بضمير مستريح بنعم على أى من هذه الأسئلة. تتجلى هذه الغيبة الكبرى للعقل الاستراتيجى العربى إذا ما تعمقنا فى الحروب الإعلامية الطاحنة بين العرب، نجد أن الغالب الأعم منها لا يعبر عن عقل استراتيجي. منذ ظهور قناة الجزيرة القطرية؛ وتخصيصها برامج معينة لإطلاق الطاقات الحيوانية للإنسان مثل برنامج الاتجاه المعاكس؛ والعالم العربى دخل فى مرحلة من فقدان العقل، واللهاث وراء المعلومة التى لم يثبت صدقها بعد، والاهتمام بالأخبار العاجلة؛ ليكون أول من يعرف، وبناء المواقف والاتجاهات، وأحيانا السياسات على تلك المعلومات التى لم يتم التيقن منها، ولم يتم التأكد من صحتها، أو صدقها. هنا غاب العقل الاستراتيجي، وحل محله التفكير المتسرع؛ المبنى على الخبر العاجل؛ الساعى لتحقيق السبق؛ وتحصيل الرزق. هنا فقد العرب عقلهم الجمعي، وفقدت نخبتهم عقلها الاستراتيجي، ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعى أصبح كل من يجيد القراءة والكتابة مفكرا يقارع أعظم المفكرين، ولم يعد فى حاجة للتعلم، أو للفهم، أو لاستيعاب الموقف، بل أصبح كل من يستطيع القراءة والكتابة، ويملك حسابا على وسائل التواصل الاجتماعى مشاركا فى تقييم الموقف، وتحديد الاختيارات، بل أحيانا يسارع بتقديم ما يجب أن يتخذ من القرارات. فى زحام المعلومات فقد العرب عقلهم، وفى غياب النخبة المثقفة وانشغالها بترتيب أوضاعها المعيشية من خلال تسخير فكرها للمراكز البحثية القليلة التى تعمل لمصلحة حكومات وأجندات معينة. لقد تحولت العديد من الحكومات العربية الى الانشغال بإدارة الشؤون اليومية لشعوبها المأزومة، وقادها ذلك إلى أن تفتقد الرؤية الاستراتيجية، والتخطيط المستقبلى فلا تستطيع إدراك كنه المصلحة القومية، أو الأمن القومي، أو حفظ الكيان، أو الحفاظ على الدولة. كل تلك المفاهيم غريبة عن إداريين ينشغلون بالشؤون اليومية وحسابات الربح والخسارة، ومواجهة الأزمات الطارئة بصورة وقتية ومؤقتة؛ وإن أدت إلى خسائر فادحة على المدى المتوسط أو البعيد. ناهيك عن الطبيعة التنافسية بين مديرى الدول العربية التى أصبحت تأخذ صفة التنافس بين شركات تعمل فى مجال واحد؛ أكثر من كونها كيانات اجتماعية سياسية لها مصالح قومية عليا، وأهداف استراتيجية مشتركة، وتواجهها مخاطر تهدد أمنها القومي. وهنا وجدت الدول المجاورة التى تريد إنفاذ مشاريعها الحضارية على حساب العرب خصوصا تركيا وإيران وكلاء محليين؛ فى صورة مسئولين يقومون بدور تسويقى لهذه المشاريع؛ طالما وجدوا فيها تحقيقا لمصالح وقتية ونجاحات مؤقتة؛ ناهيك عن المصالح الشخصية التى لا نريد التطرق إليها أصلا لعدم الحاجة إلى ذلك، ولعل وكلاء المشروع الإيرانى فى العراق ولبنان واليمن أوضح مثال على ذلك، لا ينافسهم إلا وكلاء تركيا فى قطر وتنظيم الإخوان الفاشل. هنا أصبحت الأمة العربية قليلة المقاومة لنفاذية استراتيجيات الدول المجاورة: تركيا وإيران؛ حتى وإن أدت إلى تدمير خصوصياتها وأعمدة وجودها، وقد لا نحتاج إلى تعداد الأمثلة على هذه الحالة؛ فالجميع يعرفها ويدرك أمثلتها ونماذجها، ولعل انسياق الكثير من العرب على مختلف المستويات الثقافية خلف التوظيف التركى لحادث مقتل الصحفى السعودى جمال خاشقجى رحمة الله عليه، لهو مثال على ذلك، فقد أصيبت النخبة المثقفة العربية بفقدان مؤقت للذاكرة ونسيت أن أردوغان اعتقل وقتل وشرد المئات من الصحفيين، وأنه يستخدم هذه الحادثة لتحقيق مصالحه مع العالم الغربي، وللانتقام من السعودية من جانب لعدم دعمها لمشروع الإخوان فى مصر، ولابتزازها من جانب آخر لمعالجة أزمته المالية. ومع الإقرار بأن حادث خاشقجى غير مبرر، إلا أن ذلك لا يجعل العرب يفقدون عقلهم ويسيرون كالأعمى خلف انتهازى يهدد مصالحهم، ويستخدم مثل هذه الحوادث لتحقيق أعظم الأضرار بهم. العقل الاستراتيجى هو الذى يستطيع أن يرى الأمور فى صورتها الكلية، وأن يربط الأحداث بالزمان والمكان، وأن ينظر الى أى حدث فى ضوء امتداده الزمانى البعيد، وامتداده المكانى الواسع، وتعلقه بالمصالح العليا للأمة، وموقع الصديق والعدو منه....وهذا ما نفتقده. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف