برز الثعلب يومًا فى ثياب الواعظين، فاصطاده أحمد شوقى فى قصيدته الشهيرة. والمعادلة العبثية نفسها حققها نجيب محفوظ فى قصة «الشيطان يعظ» التى صارت فيلمًا أنصحك بمشاهدته. لكنك تظلم الثعلب والشيطان لو تعاملت بغير تلك المعادلة مع أى تصريحات يزعم فيها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أنه ينتصر للقانون أو ينحاز لحقوق الإنسان. وتظلم الأخير لو أرجعت تلك التصريحات، أو غيرها، إلى المعايير المزدوجة التى تحكم سلوكه، وتجاهلت أن غالبية سابقيه حكمت سلوكياتهم المعايير ذاتها ولو بدرجة أقل فجاجة. لن نستعرض تاريخ الولاياتالمتحدة الطويل مع انتهاكات حقوق الإنسان داخل الأراضى الأمريكية وخارجها، أو خرقها للقانون الدولى وقرارات الأممالمتحدة ومجلس الأمن، مكتفين بالإشارة إلى أنه لم يحدث أن التزمت الإدارات الأمريكية المتعاقبة بأى قرار أممي، صدر على غير رغبتها أو تعارض مع مصالحها، كما لم يحدث أن قوبلت انتهاكاتها المتكررة، بأى رد فعل. ومع تلك الإشارة يمكننا إضافة قيام جون بولتون، مستشار الأمن القومى الأمريكي، بتهديد المحكمة الجنائية الدولية وقضاتها، بمعاقبتهم حال قيامهم بملاحقة أمريكيين أو إسرائيليين أو أى حلفاء آخرين للولايات المتحدة. ولو عدت إلى الكلمة التى ألقاها أمام الجمعية الاتحادية بواشنطن، ستجده يعلن بوضوح أن بلاده ترى تلك المحكمة ميتة، ويقول بالنص: سنمنع هؤلاء القضاة والمدعين العامين من دخول الولاياتالمتحدة، وسنستهدف أملاكهم بعقوبات فى إطار النظام المالى الأمريكي، وسنطلق ملاحقات بحقهم عبر نظامنا القضائي. لا خلاف على أن المحكمة الجنائية الدولية ميتة. غير أنك لو فتحت عينك الأخرى ستجد إلى جوار جثتها منظومة العلاقات الدولية راقدةً فى سلام ومعها كل مؤسسات صنع القرار الدولي، وكذا النظام القضائى الأمريكي، الذى لم يحدث أن انتصر لواحدة من شكاوى آلاف المهاجرين الذين احتجزتهم (ولا تزال) إدارة الأمن القومى ودوريات الحدود الأمريكية فى ظروف غير إنسانية، يتم فيها دفع أدمغتهم فى الحوائط والمراحيض. أو التفت لواحدة من شكاوى الآلاف الذين تعاملهم هيئات الأمن بوحشية وتقتل منهم شخصًا كل 10 أيام فى المتوسط، دون أن يكون مسلحًا، ودون أن يتعرض ضباط الشرطة مرتكبو هذه الجرائم للعقاب. أو أنصف حالة واحدة من 60 ألف مواطن، يتم تلفيق الاتهامات لهم، سنويًا، لمجرد أنهم قدموا شكاوى ضد إجبارهم على خلع ملابسهم، بزعم تفتيشهم بعد إلقاء القبض عليهم فى جنح صغيرة. ليس هذا الكلام من عندي، بل ستجده إلى جانب آلاف الأمثلة فى كتاب, الدولة المارقة: دليلك إلى الدولة العظمى الوحيدة فى العالم، الذى استطاع مؤلفه وليام بلوم، فى أكثر من 400 صفحة، إثبات أن ممارسات الدول الصغيرة البائسة التى تصفها الولاياتالمتحدة بأنها دول مارقة، لا يمكن مقارنتها بتلك التى تقوم بها الدولة المارقة الكبرى التى وقع العالم بين مخالبها. وأن الجريمة فى الولاياتالمتحدة ليست حكرًا على المجرمين والخارجين على القانون أو العصابات أو المنظمات الإرهابية، بل هناك جرائم ترتكبها أجهزة الأمن والمخابرات، بوسائل أكثر دهاءً وتعقيدًا من تلك التى يستخدمها المجرمون التقليديون. المواطن الأمريكى ليس أكثر من ريشة فى مهب ريح السلطات داخل بلاده. أما خارجها، فيكون تحت عين السفارات، بجهد مشترك من مكتب التحقيقات الفيدرالى ومكتب الجوازات فى وزارة الخارجية. وقد يجد نفسه سجينًا لمدد طويلة لو قام بتقديم معلومات عادية إلى أى بلد ليس اسمه الولاياتالمتحدة. وقد يعيش خلف القضبان مدى الحياة، لمجرد الإفصاح عن معلومات متوافرة أو معلنة فى بعض الحالات أو التى تم نزع السرية عنها، لا يشكل أى ضرر للولايات المتحدة ولا لأى شخص آخر على سطح الأرض، غير أن نقلها إلى بلد غريب يثير حساسيات الذين يلعبون من الناحية المهنية لعبة الأسرار، لعبة الوطنيين ولعبة الأعداء. هؤلاء اللاعبون المحترفون مغرمون بإعلان أن الخيانة قد سببت ضررًا لا يمكن إصلاحه أو أدت إلى دمار لا يمكن تقدير حجمه للأمن القومى الأمريكي. وتكتمل المسرحية فى بعض الحالات بإرسال المعلومات إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي، تمهيدًا لتوقيع العقاب المناسب على المتهم. الحالة البوليسية، فى الولاياتالمتحدة، تصل أحيانًا إلى درجة الحمّى والسعار لمجرد وصول وشاية عابرة إلى أسماع المسئولين لكنها تضرب على أوتار حساسة مشدودة داخلهم وعندئذ يتم استنفار مختلف فرق الأمن المتعددة وكل أنواع رعاة البقر الرسميين، الذين يرتدون أطقمًا سوداء وأقنعة مخيفة وغيرها من أزياء المهنة، ويشكلون جمهورًا حاشدًا مسلحًا وغوغائيًا من العملاء الذين يتصايحون ويتوعدون، فى حين تحوم طائرات الهليوكوبتر أعلاهم، بأنهم سيحطمون الأبواب ويغيرون على الناس فى بيوتهم ويحطمون الأثاث، ويضربون ساكنيها ويكبلون أيديهم. وفى إطار «الأمن الوطني» تتم ممارسة أبشع أنواع التنصت والتجسس على المواطنين وكأن الولاياتالمتحدة فى حالة طوارئ دائمة. تخطئ طبعًا لو ظننت أن للثعلب دينًا. أما لو استجبت للنصيحة وقررت مشاهدة فيلم الشيطان يعظ، فقد يلفت نظرك ذلك التشابه العجيب، ليس فقط فى الملامح، بين الشبلى (عادل أدهم) والرئيس التركى رجب طيب أردوغان، وبين الدينارى (فريد شوقي) ودونالد ترامب. ودون أن تقترب من وداد (نبيلة عبيد)، لأسباب عاطفية وموضوعية، لك أن تختار الشبيه أو المعادل المناسب لشطا (نور الشريف). وإلى جوار الفتى تميم يمكنك إضافة أشباه آخرين إلى حنفى (سعيد صالح) الذى أراد الانضمام إلى رجال الديناري، فرد عليه طبّاع (توفيق الدقن) ساخرًا: هوّ جرى إيه للدنيا؟! الناس كلها بقت فتوات؟! أمّال مين اللى حاينضرب؟!. لمزيد من مقالات ماجد حبته