من أبرز التغيرات الإقليمية فى المنطقة العربية عقب الربيع العربي، بروز هشاشة الدولة الوطنية، والاضطرابات الداخلية، والأخطر انهيار الدولة والنظام السياسى فى عديد الدول العربية العراقوسوريا واليمن وليبيا وتفكك الأبنية السياسية والاجتماعية، وشيوع ظواهر العنف والإرهاب وجماعاته المقاتلة، ونفاذ دول الجوار الإقليمى العربى فى قلب النزاعات الداخلية، فضلاً عن التدخلات الدولية المتعددة فى هذه السياقات المضطربة. إن تفكك الأبنية السياسية وتصدع المنظومات الأمنية، والأنسجة الاجتماعية، أدت إلى حالة انكشاف وتعرية لنموذج الدولة الوطنية ما بعد الاستقلال، وعدم استكمال شرائطه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والرمزية، وفى الوعى الاجتماعى الجماعى للمواطنين بالدولة. ومن ثم عدم استكمال عملية التحول التاريخى من المجتمع الانقسامى إلى المجتمع الموحد فى إطار تعددياته الدينية والمذهبية والعرقية والقومية واللغوية وبناء الجوامع المشتركة والموحدات الكلية. أحد أبرز العوامل البنيوية وراء الانكشاف التاريخى لإخفاق عمليات بناء الدولة، هو سيادة التسلطية السياسية، وغياب المؤسسات السياسية والمجتمعية التمثيلية المعبرة عن التكوينات الأولية تعبيرًا صحيحًا وحقيقيًا، فضلاً عن غياب أو وهن مؤسسات دولة القانون، فى ظل نظام يعتمد على مفاهيم الغلبة والموالاة ذات الجذور الدينية والمذهبية والعرقية ... إلخ. أدت سياسة الإقصاء الثقافى السلطوية إلى نمو الثقافات الفرعية فى إطار جماعاتها، وإحياء مستتر لها فى الذاكرة والأساطير الجمعية، والتاريخ الخاص لكل جماعة، ورمزياتها فى موازاة ثقافة الغلبة والاستقواء الدينى والمذهبى والقومى والعرقى التى فرضها آباء الاستقلال وخلفاؤهم وقادة النخب العسكرية والسياسية، على نحو ما يزخر به التاريخ السياسى العراقى والسورى واليمنى والليبى ودول أخرى فى الإقليم العربي. التمدد الثقافى الفرعى تحت سطوة التسلطية، ساهم فى إضعاف الموحدات القسرية لإستراتيجية بوتقة الصهر. أسهمت أيضًا سياسة الهوية الأحادية التى ارتكزت على أيديولوجيا النظام أو البنى الطائفية ومزجها بالدين إلى إقصاء الهويات الأخري، ومن ثم الثقافات الحاملة لها. من ناحية أخرى أدت الاضطرابات والحروب الأهلية إلى انفجار للهويات الأولية فى المنطقة واتخذت منحى صراعياً وتنافسيًا مع الهوية العربية الجامعة، وتعرضت الفكرة العربية للعديد من الانتقادات والجروح ومحاولة الحجب أو النكران أو الجحد، ومعها اللغة العربية لمصلحة اللهجات واللغات المحلية. إن دور المكون الثقافى رئيسى فى أى سياسات لإعادة بناء الدولة الوطنية فى إطار التسويات السياسية المحتملة والممكنة فى البلدان التى أنهارت فيها، ودخلت فى أتون النزاعات والحروب الأهلية. من هنا يبدو أساسيا بعد سكوت المدافع والصواريخ والطائرات إيلاء أهمية خاصة لصياغة سياسية ثقافية جديدة فى المراحل الانتقالية، تركز على إعادة بناء وترميم ثقافة الدولة الوطنية على أسس جديدة، تراجع ميراث السلبيات منذ تأسيسها بعد الاستقلال وتجديد قواعدها، وذلك فى ضوء المبادئ والأسس التالية: 1- الوحدة الوطنية فى إطار التكامل والتعدد والتنوع الثقافى بين المكونات اللغوية والدينية والمذهبية والقومية التى تشكلت من خلال الحياة المشتركة تاريخًا قبل وبعد الاستقلال، مع الاعتراف بالهويات المتعددة كروافد فى تشكل الهوية الوطنية الجامعة. إن الروافد الثقافية للمجموعات الأولية القيم والعادات والطقوس الاحتفالية، والموسيقى والفنون الشعبية والشعر ونظام الأكل والزي- تشكل أحد مصادر التنوع والغنى الثقافي، وتمثل أرضية ثقافية واجتماعية للتفاعلات المشتركة بين المكونات الأساسية للمجتمع، ومن ثم يمثل الاعتراف بها، وتمثيلها داخل المؤسسات الثقافية، أحد محركات العمل الثقافى الرسمى والطوعي، ومن ثم لابد من إدماجها فى مناهج التعليم الأساسية. 2- التركيز فى مناهج التعليم على الخطوط الأساسية للتاريخ الوطنى المشترك، مع عدم إغفال الأدوار التاريخية للمكونات القومية والمذهبية واللغوية فى السياقات الخاصة بتطور الحركات الوطنية، أو تاريخ هذه الجماعات، وتداخله وتفاعلاته مع المكونات الوطنية الأخرى حول المشتركات العامة. 3- تضمين التسويات السياسية ووثائقها النص على دولة القانون الحديث والمواطنة ومبادئ المساواة والحريات الأساسية وعلى رأسها حريات الرأى والتعبير، والتدين والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية. 4- ضرورة تبنى السلطات الانتقالية سياسة دينية إصلاحية للمؤسسات الدينية ومناهج التعليم الدينى داخلها، وفى التعليم العام، والتركيز على الإنتاج الفقهى والتفسيرى والافتائى الاجتهادى شعاره الإصلاح الدينى الإسلامى منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى الآن. هذا الميراث الاجتهادى فى الفقه والإفتاء وعلم الكلام، شكل استجابة فكرية لتحديات صدمة الحداثة، وتطورات المجتمع المصري، والمشرق العربي. ثمة اجتهادات فقهية منذ عقد الأربعينيات من القرن الماضى رادها الشيخ محمود شلتوت، ود. محمد عبد الله دراز حول التقريب بين المذاهب الفقهية السنة والشيعة ، وآراء وتأصيلات الشيخ عبد المتعال الصعيدى حول حرية الفكر والحرية الدينية وإصلاح الأزهر. بعض الآراء الأخرى تتالت منذ عقد الثمانينيات من القرن الماضى لتأصيل شرعية مفهوم المواطنة وحقوقها، ناهيك عن قول بعضهم بانتهاء نظام الذمة الذى ارتبط بظروف تاريخية انتهت لمصلحة المواطنة والمساواة فى العلاقة مع المواطنين من الأديان الأخري. تراث اجتهادى يتعين البناء عليه فى السياسة الدينية فى المراحل الانتقالية وما بعدها، وضرورة دمجه فى إطار مناهج التعليم الدينى والعام وفى السياسة الإعلامية. تبنى المبادئ السابقة فى وثائق التسويات السياسية المحتملة فى سوريا واليمن وليبيا، وبعض الدول الأخرى الفاشلة، يمكن أن يسهم فى تجديد ثقافة الدولة الوطنية فى إقليمنا المضطرب. لمزيد من مقالات ◀ نبيل عبد الفتاح