يرقب الأيام عن بعد، كأيّ بحّار عتيق شاخص فى البحر.. يصطاد الأغانى والزجاجات التى تطفو على زبد الشواطيء علّها تحمل بريداً من بلاده الحزينة. ينصت لانهمار العمر، وحاله يقول: «أقسى السجون تلكَ التى تكون بلا جدران». لم تعوضه أجمل بلاد الدنيا عن فقده واشتياقه إلى الوطن الأم. تأخذه الدروب نحو جنة أوجاعه عائد على جواد العشق إلى الرحم الذى تشكّل فيه. يسمع بعينيه صوت البحر وموسيقى تلاطم أمواجه، فيبحث إلى جواره عن روضة المنفى واستراحة المحارب. هنا، على بعد مائة كم من فالباريسو، واحدة من أجمل مدن شيلي، يتخيّر الشاعر بابلو نيرودا منزله. تحديداً، فوق «إيسلا نيجرا» أو «الجزيرة السوداء».. وهى ليست جزيرة وليست سوداء، إنما هى فى الواقع منتجع أنيق على شاطئ المحيط الهادي. يعتقد نيرودا أن الاسم أتى من الصخور السوداء التى تحمل أشكال جزر. حين قرر شاعر «المرأة والمطر» أن يشترى هذه الأرض عام 1938، لم يلق منها سوى أطلال واقفة تتحدى الفناء.. أطلال مهجورة تلتهمها الرمال. لكنه شرع فى تجهيزها وتوسيعها شيئاً فشيئاً، ليصبح هذا البيت الصغير مع الوقت قلعة رائعة مغطاة تماماً بالجرانيت والخشب، والتى تغفو أعلى جرف حاد وسط حضن الطبيعة الساحرة، حيث الأفياء الوارفة تظلل المكان كله.. «بدأ المنزل بالنمو، كما ينمو البشر، وكما تنمو النباتات». منذ طفولته، ارتبط نيرودا بالطبيعة: «لا أستطيع العيش بعيداً عن الطبيعة. ربما أحب الفنادق ليومين، وأحب الطائرات لساعة، لكننى أسعد حينما أتواجد بين الأشجار فى الغابات، أو على الرمال، أو فى أثناء الإبحار.. حينما أتواصل مباشرة مع النار، الأرض، الماء، والهواء». فى مواجهة البيت، يرسو قارب صيد صغير على الشاطئ.. على بعد خطوات منه فى الفناء توجد قاطرة بخار قديمة، أو ربما هى قاطرة الحياة التى تمضى دون أن تنتظر أحداً! هذا هو العمر.. قاطرة، وحقائب، وبلاد تهاجر خلف الحدود. لا يجرح صمت المكان سوى تغريد البلابل وزقزقة العصافير. منزل نيرودا «هذا البيت هو زورقى الراسى على الأرض».البيت الصامت يتحدث عن حياة عامرة مترفة كانت هنا، عاشها نيرودا مع زوجته الأخيرة ماتيلد أوروتيا، تلك المعشوقة التى طالما تغزّل فيها بقصائد الحب الشهيرة. وكأنه كان مسكوناً وغادره أهله للتو!.. لا شىء سوى صوت السكينة وجدران صامتة تخفى وراءها حكايا كثيرة! الأبواب مفتوحة.. قاعة تقودك إلى أُخري. لم يشيد نيرودا «بيتاً» بالشكل المتعارف عليه، ولكنه أقرب إلى لغز من المنازل! مفصولة بأبواب صغيرة، وسلالم، وطرقات حجرية. الغرف ضيقة نوعاً ما، كذلك السلالم.. بينما النوافذ ضخمة على البحر. «فى منزلي، تجد ألعابا صغيرة وكبيرة، دونها لا أستطيع العيش (..) الطفل الذى لا يلعب ليس طفلاً، ولكن الرجل الذى لا يلعب يفقد إلى الأبد الطفل الذى عاش فيه.. لقد شيدت بيتى كمدينة ترفيهية ألعب داخلها من الصباح إلى المساء». تدهشك حقاً محتويات المنزل! فهو يضم بين جنباته مجموعة استثنائية من أشياء غير عادية من جميع أنحاء العالم: تماثيل، قواقع، نماذج من القوارب، أدوات بحرية، دوارق ملونة، بطاقات بريدية، روايات بوليسية وكتب تاريخ... يمكن القول إنها مغارة حقيقية تشبه مغارة على بابا، تطغى عليه روح الفوضى التى يسعد بها الأطفال. بات واضحاً أن بابلو كان دوماً فى حال من الحنين إلى طفولته: «أين الطفل الذى كنته، هل لايزال فى داخلى أم رحل؟ هل يعلم أننى ما أحببته قط وأنه لم يحبنى أيضاً؟ لم أمضينا كل هذا الزمن ننمو كى نفترق؟ لماذا لم نمت كلانا عندما ماتت طفولتي؟ وإذا كانت روحى قد سقطت فلماذا يلاحقنى هيكلي؟». عادة كان نيرودا يفضل تناول طعامه فى الشرفة المطّلة على الحديقة التى تحتوى قاطرة البخار القديمة.. «يا له من محرك قوى وطاحن، مزمجر وذى صفير حاد، ويطلق أصواتاً كالرعود.. أحبه لأنه يبدو وكأنه والت ويتمان». الوجبات فى «إيسلا نيجرا» تشيلية أصيلة، دفعت شاعرنا لذكر بعضها فى قصائده: شوربة محار، سمك بصلصة الطماطم، وقطع من الجمبرى الصغير. يحاصره جنون نسيم البحر وهو يرتشف قهوته ويتأمل الفضاء الواسع عبر الأثير نحو تلك الأيام. «أعترف بأننى قد عشت».. بالفعل عاش نيرودا حياته بكل منعطفاتها: مرارتها وحلاوتها، فقرها وثرائها، سكونها وصخبها. البحر يتنهد والريح تتكسر حزناً أمام مقبرته فى حديقة منزله حيث أوصى بدفنه هنا جنباً إلى جنب مع زوجته الأخيرة ماتيلد. تبكى السماء غياب عينيه.. تنادى عصافير الفجر عزيزاً قد رحل..