كالأشجار التى تموت واقفة، رحل عنا المفكر الكبير د. جلال أمين بعد حياة مديدة ظل فيها حتى آخر أيامه منشغلا بمصر، متيما بها، وفيا لها، حريصا عليها. لم يكن غريبا أن يكون مقال د. جلال أمين فى «الأهرام» عن مصر «ماذا حدث للحراك الاجتماعى فى مصر؟» فى الخامس والعشرين من يونيو الفائت آخر ما سطره الراحل الكبير، وهو المقال الذى خلص فيه إلى أن كثيرا من مظاهر التوتر الاجتماعى فى مصر خلال ربع القرن الأخير يرجع إلى زيادة درجة الاحباط الناتج عن الفشل فى الحصول على العمل المأمول، داعيا الدولة الى التدخل فى الاقتصاد. كان مقال د. أمين الأخير أشبه بوصية مودع، استكمل به سلسلة فى حلقات متصلة شغل فيها بالحديث عن مصر والمصريين، بدءا من كتابه الرائد «ماذا حدث للمصريين؟»، مرورا ب «محنة الاقتصاد والثقافة فى مصر»، «مصر فى مفترق الطرق»، «الدولة الرخوة فى مصر» وانتهاء ب «وصف مصر فى القرن العشرين» و«شخصيات مصرية فذة» و«محنة الدنيا والدين فى مصر»، «ماذا حدث للثورة المصرية ؟» وغيرها. التقيته - لآخر مرة - أواخر يونيو الفائت قبل سفره إلى بريطانيا لقضاء إجازته الصيفية، وكان كما عرفته دائما ودودا طيب القلب، واسع الصدر، وكم كانت فرحتى كبيرة عندما كان على مايرام، حاضر الذهن، سريع البديهة، بهى الطلعة، ذا ضحكة مجلجلة عرفها كل من اقترب منه أو حاوره! قصته مع الحداثة كان د. جلال أمين يرى أن قصة التنوير فى بلادنا قصة محزنة، مشيرا إلى أن مسار التنوير فى مصر اتسم مع مرور الزمن بثقة أقل بالنفس، وافتتان أكبر بالغرب، وجهل أكبر فأكبر بالتراث. كان إعجاب د. جلال بمحمد الغمراوى «جامع الأصالة والمعاصرة معا» كبيرا، فسألته عنه، فقال: «فى الواقع أننى أحببت د. الغمراوى لسببين: الأول ما كتبه أبى عنه فى كتاب «حياتى» قائلا عنه إن أصدقاءنا كانوا يرهبونه فى طربوشه أكثر مما يرهبوننى فى عمتى» السبب الثانى هو رده العلمى البليغ على طه حسين، برغم حبى الشديد أيضا لطه حسين وتقديرى له، فإننى لا أتعاطف مع كتابه «فى الشعر الجاهلى». أما عن المناخ الذى أنتج الغمراوى، فلننظر فى الفترة التى كان يكتب فيها وهى فترة العشرينيات والثلاثينيات، وهى الفترة التى كانت فيها الطبقة الوسطى المصرية فى أحسن أحوالها، والغمراوى كان يكتب لهذه الطبقة ويقرأ لهم. سألته ذات مرة :لو كنت وزيرا ماذا سيكون أول قراراتك ؟ فأجابنى بأريحية عرف بها: «أول شىء أن أشيل ناس وأحط ناس، فلو كنت وزيرا للتعليم، لأتيت مثلا بمن يحسن اختيار الكتب المقررة على التلاميذ، لأنه إذا كان هذا الشخص فاسدا، فسيصبح أقاربه هم المؤلفين، وقل مثل هذا عن الثقافة والاقتصاد، فأول قرار هو تغيير الفاسدين الموجودين فى المناصب الأساسية، ولحسن الحظ مصر مليئة بالمخلصين والأكفاء فى نفس الوقت». رحم الله د. جلال أمين المفكر القامة والقيمة، ولعل خير تكريم له أن نفيد من كتاباته وأفكاره التى ستبقى.