حالة غنائية فريدة فى التراث الغنائى العربى، هى ثلاثية عبد الحليم حافظ، التى كتبها الشاعر الرقيق الحكاء نديم الليل والنجوم «كامل الشناوى»، ثلاثية تروى لنا حكاية حب غادرة فى حياته، يخاطب فيها الشاعر حبيبته الخائنة ثم حبيبها وفى النهاية يلوم قلبه الموجوع الذى مازال ينبض بحبها، بالرغم مما فعلته به.. ثلاثية رائعة لا نظير لها كما أن ثلاثية نجيب محفوظ بين القصرين وقصر الشوق والسكرية لا مثيل لها فى أدبنا العربى. ومع أن عبد الحليم حافظ لم يغن أول قصيدة فى الثلاثية إلا متأخرا، واعتلت صهوتها مبكرا نجاة الصغيرة فى «لا تكذبى»، وقيل إنها هى نفسها المهلمة التى كوت نار قلب كامل الشناوى بلهيب الخيانة، وأول من سمعتها منه وطلبت غناءها كأنك لا تعلم شيئا، وسحرت بها آذان مستمعيها وقلوبهم وعقولهم، ومازال غناؤها حتى الآن مرتبطا بأذهان الناس أكثر من الرائع صاحب الصوت الساحر محمد عبدالوهاب، ومن عبدالحليم حافظ الذى أداها بأسلوب غاضب متفرد، حتى يهرب من قبضة عبد الوهاب الكاسحة، ومن أداء نجاة فائق الجمال والهمس. وارتفع عبد الوهاب فى موسيقى لا تكذبى إلى قمم سامقة، استهلها بأربع نغمات متتالية سريعة، مثل دقات رفع الستار عن خشبة المسرح، كأنه ينبه الجمهور إلى شيء جلل سوف يقع، ثم ينساب اللحن بلوعة كاشفة، إذ انطلقت النغمات من آلاتها الموسيقية بأسى بالغ، ينقلب إلى زخم هادر ثم تهدأ رويدا رويدا، موسيقى متسائلة حائرة بين المواجهة والكتمان، وحين تقترب من قرار البوح، ترتفع وتحتد قبل أن يبدأ الغناء. واكتفت نجاة ب «لاتكذبى» وكذلك عبد الوهاب الذى غناها على العود منفردا، فصوته به من السحر ما يفيض على بحر النغم. لكن حليم أكمل الحلقة وغنى بقية الحكاية، وأغلق الدائرة برائعتيه: حبيبها ولست قلبى. المدهش أن هذه الثلاثية لم تنل حقها من دراسة الموسيقيين والنقاد، ويبدو أن الجميع غرق فى جمالها وفتنتها، كما لو أنهم سكروا بها حتى الثمالة ولم يعد فى جعبتهم وعى يفكر فيها ويمعن فى تفاصيلها المذهلة. وقبل أيام سمعت حبيبها فى الإذاعة المصرية التى تستميت فى الدفاع عن الذوق والجمال والفن الرفيع ضد موجة طاغية من الغناء الراقص أيا كان معنى الكلمات المغناة حزنا أو شجنا أو فرحا، فهز الوسط صار معيارا للذيوع والانتشار. توقفت وعدت إلى مكتبتى وأعدت سماع الثلاثية متربصا بها.. يا الله..ما كل هذا الفن: شعرا وموسيقى وغناء.. أدى عبد الحليم لا تكذبى وفى ذهنه أن يهرب بعيدا عن نجاة ومحمد عبد الوهاب، نجاة وهى الملهمة للشاعر ومصدر ألمه ووجعه، غنتها حائرة بين دورين، دور المرأة التى تواسى صديقها عما جرى له من خيانة، لعله يبرأ منها، ودور الحبيبة التى تعترف بخيانتها، وتروى عطش غرورها من عذابه وولعه بها، حتى وهى تغنى بدلال مُعَذِب له ( بالهمس، باللفتات، بالصمت الرهيب)، وتشق لها موسيقى عبد الوهاب كل الدروب الممكنة لهذا الدلال الممعن فى تعذيب العاشق المخدوع. وحين يتمرد الشاعر عليها ويسن كلماته ليطعنها بها: لا تخجلى..لا تفزعى منى..فلست بثائر، أنقذتنى من زيف أحلامى وغدر مشاعرى، تغنيها نجاة بطريقة تشى بأنها لا تصدق كلامه، فهو مازال غارقا فى زيف أحلامه حتى أذنيه، مستسلمة مشاعره لهواها دون تبدل أو تردد. أما عبد الوهاب فقد غناها بصوت العاشق المصدوم المُهان الذى غدرت به محبوبته ولا يملك من أمره شيئا، عاشق بائس رضخ لمصيره الذى لا مفر منه، بالرغم من إدعائه البراءة منها وكسره لقيودها التى كبلته. أما حليم فقد وجد نفسه أمام مأزق، من هو الذى يجرؤ على أن يغنى بعد عبد الوهاب على عوده؟ ولأن حليم كان ذكيا ونبيها، فقد مضى فى طريق لا يقارنه فيه أحد بعبد الوهاب، وهو طريق العاشق الغاضب الرافض لخيانة محبوبته، حتى لو بدت بعض كلماته حزينة منكسرة، فهو يبدأ الغناء زاعقا فيها بصوت قوي: لا تكذبى، كما لو أنها يواجهها قائلا لا داع للكذب لقد انكشف لى خداعك، ولا داع أن تبكى، فبكاؤك هين مثل كذبك، ورأيتك فى وضع مخل نافذ الغدر، أى يحدد لها الموقف قبل أن يتكلم ويتحاسب معها. بينما عبد الوهاب غناها كما لو أنه يرجوها ألا تكذب..فقد رأها معه، وهو يكره الكذب لأنه هين، ويقدم برهان كذبها بتذلل وألم ممض كأنه لا يصدق، ( إنى رأيتكما، إنى سمعتكما، عيناك فى عينيه..فى شفتيه..فى كفيه..فى قدميه). وتنتهى قصيدة لا تكذبى بكلمات توحى بأن الشاعر المغدور به قد تاب عن ذنب الحب الذى ابتلاه. لكن قلب الشاعر يخونه ولا يستجيب لهروبه من خلف أسوار الحب الخائن.. ويسأل الشاعر نفسه: ماذا أفعل؟ فيهديه عقله إلى الثأر من معشوق محبوبته الخائنة، وأن يُنْزِلَ به الوجع والحزن والألم كما أمسكت بوجدانه ومزقت مشاعره، فيكتب إليه قصيدة يخاطب فيها: حبيبها، ويكايده: (لست وحدك حبيبها، أنا قبلك، وربما جئت بعدك).. ثم يعاود الكَرَّة فى مقطع ثان، ( حبيبها وروت لى ما كان منك ومنهم، فهم كثير..ولكن لا شيء نعرف عنهم)، أى هى أمرأة خائنة بطبعها وكما خدعتنى فأنت لست ناجيا من خداعها! هنا تصاحبنا موسيقى محمد الموجى الذى أبدع أيضا فى لحن القصيدة الثانية الهادئة، تراوح فيها نغمات الكمان وتجيء بقوة معلنة صداما قادما، ثم تنساب بنعومة تمهيدا لدخول الآلات النحاسية منذرة، يتناغم معها الجيتار مثل دقات قلب متوتر قبل أن يغنى حليم مناديا حبيبها، ملقيا له بحقيقة المرأة التى سقط الاثنان فى حبها. ولا يكتفى الشاعر بالكيد للرجل الآخر، وأنما يمعن فى وصف الحبيبة الخائنة، ( فلم أزل ألقاها، وتستبيح خداعى، بلهفة فى اللقاء، برجفة فى الوداع)، كما لو أن الخيانة تجرى فى دمها ولا تستطيع أن تعيش دونها.. ويحاول أن يجهز الشاعر على العاشق الآخر دون أن يوجه له طعنة مباشرة، ويلجأ إلى حيلة بارعة، أن يصف نفسه، ليبين لهذا العاشق المخدوع مصيره الذى ينتظر، فنحن فى حبها سواء. وسرت وحدى شريدا.. محطم الخطوات.. تهزنى أنفاسى.. تخيفنى لفتاتى كهارب ليس يدرى.. من أين، أو أين يمضى؟ شكٌ، ضبابٌ، حطامٌ بعضى يمزق بعضى. وحين يخلص من الرسالة والكيد، يعود إلى نفسه، إلى قلبه الذى لن يحب سواها: إلى متى أنت قلبى؟ هنا ترك الشاعر محبوبته الخائنة فى حالها، وأخرج عشيقها من حساباته، فهو ماض إلى مصير مشابه وربما أسوأ، والتفت إلى قلبه فى مواجهة حادة، فكتب «لست قلبى». وعادت القصيدة الثالثة إلى موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب ليكمل إبداعه الأول..هنا اختصر عبدالوهاب المقدمة الموسيقية، فهى مواجهة مع الذات لا تحتاج إلى مقدمات كثيرة، ويكفى أن تنساب نغمات التشيللو والكمان هادئة حائرة بالسؤال الملح وهى تعلم علم اليقين ماذا سيكون الجواب عليه، وأن السؤال من باب الملاوعة وعدم التصديق. ويخاطب عبد الحليم قلبه فى ذل واضح، وهو لا يفهم كيف يشد قلبه إلى كل هذا الهوان والعذاب، وترتفع الموسيقى مع رفض عبد الحليم ذل قلبه، ويقول له: خنجر أنت فى الضلوع. وبعدها تهدر الموسيقى بكل الآلات صاخبة لأن المغنى سوف يلطم قلبه باللوم والغضب: «ألا تدرى بما جرى..ألا تدرى دمى جرى»! ثم تهدأ الموسيقى، ليأتى دور النادى شجنا تلاحقه نغمات الكمان، فالشاعر يواجه قدره المكتوب ويجد فيه تبريرا لمأساته، فهو الذى سحق هامته بحب خائن، ويسأله: صحوة الموت ما أرى، أم أرى غفوة الحياة؟. هو يهرب من المسئولية لأن القدر هو الذى يشده إلى هوى ليس له ضمير.. أداء عبقرى من عبد الحليم حافظ خاصة وهو يجسد الأزمة حين ينفرد فى لوعة وانكسار وشغف بكلمة «أُحبُها»، وهى فى شطرة ( دمرتنى لأننى كنت يوما أحبها)، ويرددها مرتين. نعم نحن أمام حالة لا نظير لها فى الغناء عموما، ربما أغنية عالمية وحيدة تقترب على مسافة ليست قليلة منها، وهى أغنية «دليلة» للرائع «توم جونز» الذى يبالغ البعض فى تقديره ويعتبره مغنى كل العصور، وظهرت فى نهاية الستينيات وغزت العالم من جبال اليابان شرقا إلى نهر الأمازون غربا، وهى تبدأ بموسيقى زاعقة هادرة كشلال من قمة الكون، ترتطم بكل ما يصادفها، واصفا خيانة دليلة لحبيبها، وتقول الكلمات: رأيت الضوء فى الليلة التى عبرت بشباكها، رأيت ظلال الحب المتأرجحة على ستارتها، كانت حبيبتى، شاهدتها بينما تخدعنى، وفقدت عقلى، شعرت أننى ضائع مثل عبد لا يمكن لأحد أن يمنحه حريته، وكنت أنتظر حين خرج الرجل من عندها، عبرت الشارع، فتحت لى الباب ضاحكة، لم أشعر إلا والخنجر فى يدى ولم تعد تضحك مرة أخرى. أى لم يتحمل توم جونز خيانتها فسفك دمها وأسكت ضحكتها إلى الأبد، بينما حليم ظل موجوعا حائرا يجهل الطريق. هذه ثلاثية فريدة خالدة فى تراثنا الغنائى تجمع بين خمسة من العملاقة: كامل الشناوى ومحمد عبدالوهاب ومحمد الموجى وعبد الحليم حافظ، ونجاة الصغيرة هكذا كان نسميها فيما مضى!