تحكي احدي قصص الف ليلة عن صياد يعلق بشبكته قمقم, عندما يفتحه يخرج جني عملاق يقرر من فوره قتل الصياد رغم انه اخرجه من محبسه, لان مخزون الحقد داخله جعله يقرر ان ينتقم من اول انسان يصادفه. وبعد ان فشلت توسلات الرجل للعفو عنه يلجأ الي الحيله طالبا من المارد ان يحقق له امنية اخيرة قبل موته وهي ان يريه كيف امكن للقمقم الصغير احتواء جسده العملاق. وتنطلي الحيلة علي الجني ويعود الي محبسه ليسارع الصياد بإغلاقه. في دراما حياتنا الواقعية قصه مشابهة غير ان نهايتها مختلفة. النظام السابق اخرج شيطانا لا يقل قبحا ولا شرا عن جني الف ليلة غير انه ليس بنفس بلاهته. فك نظام مبارك وحش البلطجية من عقاله وأطلقه يعيث فسادا ما بين قطع للطرق وسرقة بالإكراه وخطف وغيرها من احط واخطر الجرائم. ولسوء الحظ رحل النظام وبقي الشيطان طليقا. برع النظام الساقط في التوظيف السياسي للبلطجة من خلال الاعتداء علي المعارضين وإدارة وتزوير الانتخابات. التغيير الذي طرأ بعد الثورة هو اقتصار التوظيف السياسي للبلطجية علي التنكيل بالمتظاهرين دون تزوير الانتخابات. إلا ان الاخطر هو ان نشاطهم الاجرامي اتسع وخرج عن نطاق السيطرة تماما. هذا اذا جاهدنا انفسنا لنتخلي بصعوبة عن نظرية المؤامرة و من ثم نستبعد الاتهامات التي تتحدث عن انفلات امني مدبر منذ نجاح الثورة. التطور اللافت والمثير للقلق حاليا لا يتمثل فقط في استمرار جرائم البلطجة واتساع رقعتها, ولكن في تورط شرائح اجتماعية جديدة في تلك الممارسات غير القانونية. مواطنون عاديون بلا تاريخ اجرامي باتوا يرون ان اقترافهم لهذه الممارسات هو تصرف طبيعي للتعبير عن رفضهم لظلم وقع عليهم من قبل الدولة. او احتجاجا علي نقص الخدمات او انعدام الامن في مناطقهم. يظهر هذا بوضوح في عمليات قطع الطرق المتكررة التي يشارك فيها المئات من غير البلطجية. لم يجد الناس في احيان كثيرة بدا من التصرف خارج نطاق القانون مادامت الطرق الطبيعية لحل مشاكلهم وإسماع اصواتهم قد سدت في وجوههم. البلطجة اذن لم تعد قاصرة علي المجرمين, بل اصبحت سلوكا جمعيا له مشروعيته ومنطقيته لدي الكثيرين. وهو تطور مؤسف تتحمل الدولة جزءا من المسئولية عنه لفشلها في القيام بواجباتها الاساسية في خدمة مواطنيها وتلبية احتياجاتهم. مأساة قطع الطريق الزراعي وتعطيل القطارات قبل العيد مباشرة هي ايضا حلقة في هذا المسلسل. وهي تجسد جانبا اخر من جوانب الخلل في العلاقة بين طرفي العقد الاجتماعي اي الدولة والمواطنين. ما حدث ليس جديدا: مواطن يموت في قسم للشرطة التي تعلن ان الوفاة طبيعية بينما يؤكد اهله انها بسبب التعذيب, ثم يتطور الامر الي هجوم علي القسم للانتقام. ويبدو ان شيطان البلطجة لم يكن هو وحده الذي خرج من القمقم بل انطلقت معه ايضا رغبات شريرة لانتهاك القانون واحتقار رموزه. الشرطة, كما الدولة ايضا, تتحمل جانبا كبيرا من مسئولية ما يجري. فقد ظلت لسنوات اداة النظام للقمع والتنكيل بالشعب. وعندما تشكو الداخلية من ضياع هيبة الأمن تنسي انها لم تفعل ما يكفي لعلاج ازمة الثقة الحادة بينها وبين المواطنين. ولم تبذل جهدا كافيا لإقناع الشعب بأنها تغيرت وتطهرت من الفاسدين وزبانية التعذيب وقتلة المتظاهرين. الدعم الذي تنتظره الشرطة من المواطن العادي لابد ان يسبقه جهد من جانبها لتوفير الامن له. قصة الف ليلة لم تنته بإعادة الجني للقمقم. فقد اقسم للصياد انه اذا اطلقه لن يقتله وسيجعله اغني اغنياء الارض وأوفي بوعده. المعني هنا انه في داخل الشر المستطير هناك دائما بذرة خير يمكن تنميتها. البلطجية انفسهم ليسوا دائما من عتاة المجرمين الميئوس من اصلاحهم. وفي كل الاحوال ليسوا هم الطرف الوحيد المدان. الدولة هي التي احتضنتهم واستعانت بهم. وقبل ذلك كانت قد نسيتهم او حاصرتهم بلا تعليم او رعاية في بؤر عفنه مسكونة بالفقر والتخلف والجريمة تسمي العشوائيات. علي الدولة ان تنهي غربة ابنائها في وطنهم, عندئذ ستكتشف ان كثيرا من هؤلاء المهشمين في داخلهم بذور للخير لا تقل عن جني الصياد. المزيد من مقالات عاصم عبد الخالق